أشرف الصباغ
السيد بيلاطس وتابعه يهوذا يحتفلان أيضا بميلاد المسيح
كل عام وكلنا بخير..
في لقائه السنوي الأخير بالمواطنين ووسائل الإعلام، ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "نكتة" روسية في غاية الأهمية والخطورة. وهي ببساطة تدور حول واحد قابل التاني، خدوا وادوا في الكلام.. ووصلوا إلى إن الدنيا دي عبارة عن مراحل سودا ومراحل بيضا... فالأولاني سأل التاني: طب وإنت دلوقت بتمر بأنهي مرحلة؟ قال له: للأسف، بامر بالمرحلة السودا، والأحوال زي الزفت... المهم يعني فات ٦ شهور واتقابلوا تاني. فالأولاني سأل التاني: أخبارك إيه، يا ريت الأمور تكون بقت أفضل؟ قال له: آهي ماشية!! فسألة: وإنت في أنهي مرحلة دلوقت؟ فقال له: في المرحلة السودا!! فالأولاني قال له: يا جدع هو إحنا مش كنا لسه متقابلين من ٦ شهور فاتوا، وإنت كنت في المرحلة السودا... التاني بص له وقال له: معلش، ما هو أنا كمان كنت فاكر كده، بس اتضح إنها كانت المرحلة البيضا!!
هذه النكتة المهمة تعكس ثقافة شعبية غير عادية يمكنها أن تتعلق بالاقتصاد وبالأوضاع السياسية والاجتماعية. ولا يخفى على أحد ما سببته العقوبات الغربية للاقتصاد الروسي من مصاعب وتعقيدات، وانعكست على ميزانية الدولة وأوضاع المؤسسات وحياة الناس.
وفي الحقيقة، فبوتين أيضا من الجيل الذي تعلم في المدرسة قراءة الأدب الروسي الكلاسيكي. والمسألة لا تعود إلى رغبة بوتين في القراءة أو حبه لها، بقدر ما تعود إلى البرامج التعليمية التي تطبق في المدارس، سواء بالنسبة لدراسة لأدب الروسي وتحليله أو دراسة الحضارات القديمة في السنوات الأولي من المدرسة الابتدائية. وبالتالي، لم يكن غريبا أن ينفعل بوتين ذات مرة في أحد اللقاءات السنوية، خلال فترة رئاسته الثانية، ويبدأ بالحديث عن "الأبلوموفية".
و"الأبلوموفية" هي المصطلح العلمي الذي اشتقه الباحثون في الآداب وعلماء النفس والاجتماع الروس من اسم بطل رواية "أبلوموف" التي كتبها الروائي والمفكر الروسي إيفان جونتشاروف الذي لا تقل أعماله أهمية عن أعمال دوستويفسكي وتولستوي تحديدا. وأبلوموف ببساطة لخص حياة الأثرياء الروس، أو بالأحرى حياة "الحالمين بالثراء". فكان طوال الوقت مستلقيا على الأريكة يفكر في أحوال العالم. لم يكن يفعل أي شئ آخر سوى التفكير في الحياة والراحة والثراء وتحولات الدنيا ونوائبها.
بوتين آنذاك كان غاضبا من حالة التراخي الاجتماعي. وتمكن من استخدام "دلالة شعبية" خلقها الأدب وتحولت إلى جزء من الميثولوجيا الشعبية الروسية. بالضبط مثلما تمكن الكاتب المصري نجيب محفوظ من خلق نماذج بشرية تحولت إلى دلالات شعبية، مثل "سي السيد" و"محجوب عبد الدايم".. وعندما خلق ثروت أباظة "جواز عتريس من فؤادة باطل".. وعندما خلق يوسف إدريس "عرق البطاطا هو اللي كان السبب".
وبالعودة إلى النكتة السوداوية المذكورة أعلاه، فقد اتفق بوتين ضمنا مع وسائل الإعلام والمجتمع قبل نهاية عام ٢٠١٥ بحوالي ١٠ أيام على "عقد اجتماعي" يقضي بالتَفَهُّم، لأن البعض قد يعتقد أن روسيا قد مرت بالمرحلة السوداء في عام ٢٠١٥. وبالتالي، ووفقا لقوانين الميثولوجيا الشعبية، فالمرحلة المقبلة – أي عام ٢٠١٦ – ستكون هي المرحلة البيضاء. ولكن هذا البعض قد يفاجأ بأن المرحلة البيضاء كانت في ٢٠١٥!!!
ابتسم بوتين. وابتسم الصحفيون والمواطنون الروس الذين يدركون مغزى النكتة، ومغزى الرسالة. وبدأ الجميع يستعد لاستقبال العام الجديد الذي لا يعرف أحد هل سيكون هو المرحلة البيضاء، أم أن المرحلة البيضاء كانت في العام الأسود السابق!!
أما العام الجديد فليس له ذنب كتقويم تاريخي. فكل ما في الأمر أنه يؤرخ لميلاد سيدنا عيسى. وبنتيجة اختلاف الطوائف المسيحية والتقويمات الزمنية، هناك من يحتفل به في ٢٤ على ٢٥ ديسمبر. وهناك من يحتفل به في ٦ على ٧ يناير. وتم الاصطلاح فلكيا على أن العام الميلادي الجديد يبدأ في الأول من يناير. وبالمناسبة، فالروس لديهم أيضا عيد يسمى (رأس السنة الميلادية الجديدة القديمة) يحتفلون به يوم ١٣ يناير. وهذا الأمر يعود إلى أن البلاشفة عندما جاؤا إلى السلطة عام ١٩١٧ قاموا بتغيير التقويم الروسي، فأصبح هناك ١٣ يوما تفصل بين التقويمين القديم والجديد.
العام الجديد يمثِّل عيدا لغالبية سكان الكرة الأرضية بصرف النظر عن الدين والطائفة والعرق والثقافة. وبعد ذلك، يقوم كل شعب أو طائفة أو عِرْق بالاحتفال بعيد رأس السنة الخاص به. المهم هنا أن البشرية نجحت في إعلان ٣١ ديسمبر على ١ يناير من كل عام، مناسبةً إنسانيةً عامة لاستقبال عام جديد يتمنى الجميع أن يحمل معه كل المراحل البيضاء على عكس سابقه! وبالمرة يبعث كل "راع" إلى "رعيته"، وكل "أب" إلى "أبنائه" برسائله المباشرة أو الضمنية.
لكن الغريب أن الطقس الأساسي نفسه يكاد يتلاشى. أو في أحسن الأحوال، يكاد يتحول إلى طقس خال من الجوهر: مجرد حدوتة عن الميلاد والصلب. بينما الطقس الأكبر والأهم يكاد بالفعل يندثر وسط "البورنو الإعلامي"، وفي خضم "الدعارة السياسية"، وتحت ضربات معاول "الإرهاب المعتدل والإرهاب المتطرف"، وأمام إعادة المجتمعات قسرا إلى "عصور العبودية الاستبداد" في القرنين الثامن والتاسع عشر تحديدا وتحت مسميات برَّاقة ومغرية وعلى خلفية تقدم علمي – تقني غير مسبوق في التاريخ.
لقد نجحت كل العوامل المذكورة في المقطع السابق في إقناع إنسان العصر الحديث بأن بيلاطس البنطي كان بريئا من دم المسيح، وأن المحيطين به هم الفاسدون والمفسدون، وأنهم كانوا يكذبون عليه ويخدعونه. ونجحت في أن تقنع كائن العصر الحديث بأن يهوذا كان أحمقا وغبيا وتم التغرير به لضعف نفسه وإيمانه، وأنه كان بحاجة إلى ٣٠ فضة لكي يبيع صديقه ومعلمه، وأن ٣٠ فضة كانت كافية بالفعل لتغيير مسار التاريخ البشري.
لقد نجحت العوامل السابقة أيضا في إقناع كائنات العصر الحديث بأن تجار اليهود كانوا مجرد بشر مؤمنين يخافون على ديانتهم ولذلك أظهروا عداءهم للمسيح الذي جاء بديانة جديدة ستجردهم من إيمانهم الذين ولدوا وشبوا عليه.
في نهاية المطاف تغيرت الرؤية، وأصبحت كائنات القرن الواحد والعشرين تكاد تؤمن إيمانا راسخا بأن الحدوتة تكمن في عمليتي الميلاد والصلب، والمعجزات التي حدثت بينهما. بينما الحدوتة الأصلية تتلاشى، أو تلاشت، بين البورنو الإعلامي والدعارة السياسية وتقسيم الإرهاب إلى متطرف ومعتدل وتنميط الإنسان ليصبح مجرد كائن إلكتروني يستلذ بالعبودية والاستعباد والاختيارات الشحيحة بين أمنه وبين حريته.. بين طموحاته وحقوقه وبين وضعه الاجتماعي ولقمة خبزه. بل وأصبح هذا الكائن – العبد يؤمن تماما بأنه لم تكن هناك أي علاقة بين بيلاطس ويهوذا والتجار اليهود. وكل ما في الأمر أن الناس استيقظوا آنذاك ليجد كل منهم أمام باب بيته ورقة كُتِبَ عليها "لقد تخلَّصنا منه". وإلى الآن لا يعرف أحد مَن الذي تخلَّص منه، ومن الذي كتب هذه الأوراق!!
تبقى فقط تلك الدائرة التي لا يمكن أن تنغلق، حتى لو انطبقت السماء على الأرض، إلا بوجود الخائن والمحرض والقاتل والقواد الذي يكتب التاريخ. هؤلاء الأربعة لا يمثلون أضلاع مربع أو مستطيل أو أي شكل هندسي آخر، بقدر ما يمثلون تلك الدائرة اللعينة المغلقة بإحكام منذ أن اتفقوا ضمنا وسرا وعلانية على إدارة المجتمع والتاريخ وكتابته إلى يومنا هذا، وفق شبكة مصالح تتغير تفاصيلها ولا يتغير جوهرها أبدا. إنها الدائرة بشكلها الهندسي – الاجتماعي – السلطوي التي لا يمكن أن تتلاشى طالما أن "المسيح يُصلَب من جديد" كل يوم وكل ليلة وفي كل مكان يوجد فيه الخائن والمحرض والقاتل ومزور التاريخ الذين تجمعهم شبكة المال والدين والسلطة!