الأهرام
عائشة عبد الغفار
بدران الأسطورة وضمير الوطن
رحل عن عالمنا يوم الجمعة 17 ديسمبر 2015 الدكتور إبراهيم بدران القمة والقامة العلمية والإنسانية والوطنية التى جسدت على مدى تسعة عقود عبقرية نادرة أنبتتها مصر الزمان والمكان..

ولقد أتاح لى القدر أن أقترب من هذا العالم العظيم الذى كان يؤمن بأن «الجراح يتحرك فى مسافة بين قضاء الله النافذ وبين رحمته» ولأتعارف على إنسانيته وحكمته وإيمانه وتواضعه وأدبه الجم ورقيه وشجاعته وزهده.. وإقدامه على شد أزر الجميع : الصديق والقريب والغريب.. كانت سماحته وابتسامته المعبرة وتصوفه المستنير وعشقه لله الذى خلقه صوره أشبه بالأنبياء والقديسين والمحاربين وأصحاب الرسالة والحكماء تذهلنى وتدعونى دائماً لتأمل تلك الاسطورة الإنسانية الخالدة وأن أتساءل لماذا كلما التقيته أشعر بنور وقدرة إلهية تشع من حوله... كان العلم والبحث العلمى أولى أولوياته منذ أن كان نائباً فى قصر العينى وخرج لتنفيذ التكليف فى مدينتىالمجدل والعوجة بفلسطين عام 1947 وفى جميع المناصب التى تقلدها بعد ذلك رئيساً لجامعة القاهرة ورئيساً لأكاديمية البحث العلمى ووزيراً للصحة ورئيساً للمجمع العلمى وعضواً فى معظم المجالس العلمية والأكاديمية كان شاغله الأكبر هو إلحاق مصر بحركة التقدم العالمى والدخول فى العولمة...

فعندما تسلم رئاسة أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا استدعى علماء من كوريا والهند لوضع خطط طموحة للتنمية بالتعاون مع خيرة علماء مصر من أبناء الطبقة المتوسطة المبدعة التى كان يرى فيها دعامة للمجتمع.. وعندما كان رئيساً لجامعة القاهرة أهتم بوضع سياسة تكنولوجية عصرية وأدخل «علم المعلومات» مستعيناً باليونسكو و«يوجين برونيكو» الأستاذ الأمريكى المؤسس لهذا العلم.. كان أيضاً أشبه «بدائرة معارف» شاملة فى تاريخ مصر المعاصر وفى الديانات السماوية وسيرة النبى محمد والصحابة وفى الفلسفة وعلم الاجتماع ـ كانت له رؤى صريحة فى الثورات التى عاصرها فثورة 1919 كانت «ثورة شعبية» و«ثورة 52 انقلابا عسكرياً»، برغم بعض ايجابياتها.. و «ثورة 25 يناير ثورة الكمبيوتر نزيهة، بريئة بلا برامج أو رؤية»...

كان يتألم من أن 22% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر وأن الطبقة المتوسطة فى مصر تحولت نسبتها السكانية من 34% عام 1994 إلى 18% عام 2004 فى حين إنها وصلت إلى 83% باليابان مستعيناً بأهم الإحصائيات للتدليل على المأساة ولذلك كان الرئيس السيسى يكن له أكبر الاحترام فى ضوء رؤيتهما المشتركة فى معالجة قضايا الوطن !

وليس غريباً أن يطلق عليه اسم وزير الفقراء ثم طبيب الفقراء حيث كان يقتضى حتى يومنا هذا 20 جنيها أتعابا لزيارته !

كان مؤمنا بعلوم الإدارة متأثراًَ بمقولة جمال حمدان بأن «الادارة المصرية جسم كسيح أضر بالعقل المكتسح فى ظل البيروقراطية التى تعانيها».

من مقولات الدكتور إبراهيم الجريئة والمخلصة «إن التاريخ وحده هو الذى سيحكم على مبارك الذى أطاح به عفريت التوريث». و«أنا مصرى ولست ناصرياً.. أو ساداتيا» وإنما قال كلمات للتاريخ وهى «إن السادات قُتل من أجل مصر» و «كان قدرة جبارة». كما وصف حرق المجمع العلمى بأنه «خسارة ستبكى عليها مصر طوال العمر»!.

لم يكن راضيا عن البحث العلمى فى مصر برغم المعارك التى قادها حتى إنه قال عام 2010 «البحث العلمى فى مصر مثل شخص لم يجد الجزمة فمشى بالشراب»!.

ولقد نجح الدكتور بدران من خلال كتابه «دراسة فى فقه التنمية التكنولوجية والتعليمية» فى اعتصار ذاكرته اليقظة ليقدم لنا وريقات خلاصة خبرة وجهد جيل كامل فى مرحلة حثيثة من تاريخ مصر ومن أجل وجود الحل الصحيح لمشكلة البحث العلمى فى علاقته بالتعليم الجامعى ومعالجة قضية فوضى التعليم التى أسفرت عن خمسة أنظمة تعليمية تتصارع وتؤثر على تشكيل نخبةالمستقبل مقترحاً إنشاء جامعة جديدة ينضم إليها 20 ألف طالب من الدراسات العليا فى مجالات الليزر والهندسة الوراثية والنانو تكنولوجى وألا يتربص بها أعداء النجاح!

وأعتقد أن الدولة المصرية فى عصر السيسى يجب أن تطلق اسم الدكتور إبراهيم بدران على شارع من أهم شوارع العاصمة, واقترح أن يكون شارع دار الشفاء بجاردن سيتى محل سكنه, تقديراً لعطائه الفياض، وإذا كان لدينا «مجمع للخالدين» مثلما فى فرنسا لكان الدكتور إبراهيم بدران أول من دخله ليكتب على جدرانه «لرجال الوطن.. مصر تعترف بالجميل» !

رحم الله الفقيد العزيز.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف