الوطن
رجائى عطية
الأمن قوام الإيمان.. وليس القتل والترويع
على عكس ما يصنعه الدواعش وجماعات الإرهاب، بنا وبالعالم من ترويع وتقتيل وإهلاك، فإن «الأمان» يأتى على رأس قائمة القيم التى يرعاها الإسلام ويكفلها بالإيمان، الأمن والإيمان جناحان قامت وتقوم عليهما المظلة الإسلامية التى ربطت بينهما ربطاً لا فصام فيه.

الأمن والأمان مقوم أساسى من مقومات الأمن المجتمعى فى الإسلام، وأصول هذا «المقوم الإيمانى» واضحة فى القرآن الحكيم وفى السنة النبوية، فمن «مقومات» أول بيت وضع للناس بمكة المباركة أن من دخله كان آمناً، وأن ضراعة إبراهيم الخليل عليه السلام إلى ربه فيما ذكر القرآن، كانت الدعاء أن يجعل سبحانه هذا البلد بلداً آمناً، وكانت «نعمة الأمان» على رأس البشارات التى زفها القرآن إلى المؤمنين يوم بدر، وهى هى النعمة التى اختارها يوسف عليه السلام لأبيه وأخيه عندما استقبلهما على مشارف مصر، فقال لهما، فيما قاله الذكر الحكيم: «وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ» (يوسف 99)، ولذلك نرى هذه النعمة حاضرة جلية بين النعم التى أنعم الله بها على المؤمنين الصادقين، فوعدهم بقوله: «وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» (النور 55). نعمة الأمن والأمان، هى نعمة النعم فى الإسلام، وليدة الإيمان والعدل، ودستورها العقل والصلاح والاستقامة والتطامن والبناء والبر والصدق والتقوى والتراحم والاطمئنان والمساواة والتسامح.

الإنسانية أسرة واحدة:

على رأس مقومات هذا الأمان، تنبيه القرآن الحكيم إلى أن الإنسانية برمتها، بكافة عناصرها وأجناسها، تنتمى إلى أسرة بل ونفس واحدة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء» (النساء 1)، والتعارف هو غاية تعدد الخلق، والتقوى هى عماد التفاضل والكرامة بين الناس، لا الدين ولا المال ولا الجاه ولا الثراء ولا الجنس ولا اللون ولا العصبية (الحجرات 13)، والتعاون على البر والتقوى، لا على القتل والإهلاك، أصل من الأصول الإسلامية (المائدة 2)، ولفظ الإسلام يرادف لفظ الإيمان، ويساويه فى كنف الطاعات التى هى كلها ثمرة الإيمان. وهذا الإيمان الصافى هو الذى يحفظ للإنسان كل إنسان سلامه الروحى وأمنه مع نفسه ومع الناس، وهو أيضاً القوة الدافعة للعمل لبناء الذات وبناء المجتمع وصنع الحضارة، وهو كذلك مصدر السلام والأمان والطمأنينة التى لا تفلح الحياة ولا تمضى بغيرها.

الإيمان غايته الحُسْن والخير لا السوء والشر:

يجهل الذين ينشرون القتل والإهلاك والدمار، ويبثون الرعب والترويع، يجهلون أن هذا كله من «السوء» الذى يناقض دعوة الإسلام الذى يتشحون كذباً به، فالمؤمنون مأمورون بأن يقولوا للناس حُسْنَا (البقرة 83)، ورسول القرآن مأمور عليه السلام بأن يحث عباد الله على أن يقولوا «الَّتِى هِى أَحْسَنُ » (الإسراء 53)، فالله عز وجل لا يحب السوء ولا يحب الجهر بالسوء من القول، إلاَّ أن يكون دفاعاً عن النفس لمن بُغِىِ عليه وظُلم (النساء 148)، ولا يفوت المسلم السوى الذى يلم بكتاب ربه وسنة نبيه، أن المنظومة الإسلامية تنهى عن البغى والقتل والإهلاك، وتنهى عن الغمز واللمز، وعن التناجى بالإثم والعدوان والمعاصى، وعن الكبر والعُجب والخيلاء، وتنادى بوصية الرحمن تبارك وتعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً » (الفرقان 63).

الأبعاد الروحية والمادية للأمن المجتمعى فى الإسلام:

الإيمان هو مدد القوة الروحية التى لا وجود لها لدى القتلة والبغاة، الذين يريقون الدماء، ويستحلون ترويع الناس. هذه القوة التى أفرخ بها النبى صلى الله عليه وسلم روع صاحبة الصديق حين ألم بهما الكفار على مدخل الغار الذى يختبئان فيه «إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ» (التوبة 40). وبث الأمان فى حنايا المؤمن، هو مدد روحى ومنحه ربانية يقول سبحانه وتعالى عنها: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ» (قريش 3، 4)، فهو جل شأنه الذى يمتن على المؤمنين بالحرم الآمن، ويبدلهم بالإيمان من بعد خوفهم أمناً.

هل قرأ الدواعش ومن جرى مجراهم فى الإرهاب والذبح والإهلاك، وصف المؤمن فى الحديث الشريف بأنه «من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»، هذا الأمان لم يقرر لفصيل دون فصيل، ولا لطائفة دون الأخرى، ولا لأهل دين دون آخر، وإنما للناس جميعاً، فلا إيمان لمن لا يأمنه الناس كل الناس على دمائهم وأموالهم.

من يقر الإيمان ويستقر فى سويداء قلبه وأعماق ضميره، يصاحبه أمنه ورفقه ورحمته، وتنهاه إرادته السوية عن السوء والمنكر والإثم، وتوفره على الخير والبر، وتحصنه بأوامر أخلاقيه لدنيّة يصونها وازع أخلاقى متغلغل فى حنايا الذات مفطور على توقير أوامر الدين وآداب العقيدة.

المقوم الإيمانى لا تعوقه التعدديات الدينية أو المذهبية أو العرقية:

لا يميز المقوم الإيمان، وما يستوجبه من توفير الأمان، بين فئة وأخرى، أو دين وآخر، أو مذهب دون مذهب، أو عرق دون أعراق، مظلة الأمان المدفوعة بالإيمان لا تفرق بين الأديان أو الجنسيات أو العرقيات، بل هى تمتد إلى كل مخلوقات الله فضلاً عن الإنسان الذى كرمه ربه وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً، أمان الطير مكفول، ولا يبيح الإيمان أن يُقتل العصفور عبثاً، أو أن تُحَجَب الرحمة عن بهائم الأنعام، حتى فى ذبحها الحلال، يجب التزام آدابه رعايةً ورحمة، ورأينا فى قصة الفاروق عمر حين خرج مع غلامه قاصدين الشام وليس معهما إلاَّ راحلة واحدة، كيف فرض الفاروق اقتسام الطريق مثالثةً، يركب أمير المؤمنين مرحلة، والغلام مرحلة، وتسير الراحلة متخففةً فى المرحلة الثالثة من أى حمولة!

الإيمان لا يبيح البغى على أى فئة للاختلاف، فمن سننه عز وجل تعدد واختلاف الألوان والألسنة (الروم 22)، وتعدد الأجناس والشعوب والقبائل (الحجرات 13)، فلا محل لأن تكون سننه التى جعلها عز وجل من آياته سبباً للعداء والتقاتل والبغى، فقد اقتضت حكمته هذا التعدد، ولم يجعل مجالاً للتفاضل والكرامة إلاَّ للتقوى والعمل الصالح، لا القتل والإرهاب والترويع، وزاد تعالت حكمته هذه السُنّة بياناً فى قوله إنه خلق الناس مختلفين، وإنهم سيبقون مختلفين، فقال: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ » (هود 118).

هذه التعددية التى ستبقى بين الناس إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ليست سبباً للبغى أو القتل أو الإرهاب أو الترويع، وإنما للتعارف والتساند، ولاستباق الخيرات مهما تعددت التوجهات «وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ» (البقرة 148). فالتعددية سُنّة كونية، اقتضتها حكمة ورحمة الله، ورسالة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم الذى أرسله سبحانه وتعالى «رحمة للعالمين»، فقال: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء 107)، وهو عليه السلام «الأسوة الحسنة» المأمور باقتدائها فى القرآن الحكيم.

العدل الاجتماعى وحقوق الإنسان والمساواة والإسماح:

من فيوض الإيمان على الأمن والأمان، أن الإسلام اتخذ من العدل بعامة، والعدل الاجتماعى بخاصة، غايةً ودستوراً ومنهاجاً، فالأمر به متعدد فى القرآن الحكيم، وبه أُمر رسول القرآن عليه السلام، وأُمر به المؤمنون أياً كانت الأعذار أو شنآن الشانئين، والعدل فى الإسلام من «عزم الأمور» الذى تجمل فيه سجايا وأخلاق وشمائل الإسلام، مع المسلم وغير المسلم، فى المعاملات وفى الحكم وفى القضاء وفى الشهادة، وفى المساواة بين الناس. وإحقاق الحق والعدل مع المساواة والإسماح، من أصول الإيمان والإسلام، الذى يوفر مظلة الأمن والأمان.

من محاور الأمن الاجتماعى فى الإسلام، توفير السبل لتحقيق العدالة التوزيعية والتعويضية والعدالة الاجتماعية، وإقامة مظلة وارفة لحقوق الإنسان والحقوق الاجتماعية، وكفالة دور الرعاية الاجتماعية بالمؤسسات الإسلامية وبدور الوقف والزكاة، ودور المسجد قبل أن يسعى المتطرفون للانحراف بدوره، وكفالة قدسية الروح، وهى كلها تصب فى تحقيق الأمن والأمان اللذين هما من أهم مقومات الإيمان وغاياته.

ومن اللافت أن الغارقين فى الإرهاب والإهلاك والترويع، يغيب عنهم ذلك كله، أو يتجاهلونه عن عمدٍ وغرض، ويتقولون فيما يقارفونه من جرائم، ولا يستحون من نسبة أنفسهم إلى الإسلام، غير مبالين بأنه لا يقر ويرفض هذا الضلال، فيما يبدو أنه غاية من غايات هذه الجماعات الضالة، أن تشوه وجه الإسلام فى نظر الناس، وأن تُهيل عليه التراب، وأن تلصق به من المفتريات والأكاذيب ما ليس فيه، لتكون خسارة المسلمين مزدوجة، بما يصيبهم من الإرهاب فى أمانهم وحيواتهم ونفوسهم وأموالهم ومرافقهم وممتلكاتهم، وبما يصيب دينهم الحنيف من تشويه ضال مضل، يستهدف قلب العالم ضده وضد المسلمين، ومطاردتهم فى بقاع الأرض.

من المفارقة المؤسفة أن يجترئ هذا الضلال على الانتساب كذباً إلى الإسلام الذى كفل الإيمان به مظلة الأمن والأمان للعالمين!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف