الأهرام
يحيى حسين عبد الهادى
الأَبْلَكَاش
كُلُنا يسترجع بفخرٍ وحنينٍ مشهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خطيباً على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام فى المدينة، يَحُضُّ الرعيّةَ على استخدام حقها فى النقد والتقويم، فإذا بأعرابىٍ يُقاطعه بقوةٍ وصدقٍ قائلاً (والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لَقَوَّمنَاهُ بسيوفنا) فيبتهج الحاكم النموذجى ويشكر اللهَ قائلاً (الحمد لله الذى جعل فى رعية عمر مَن يُقَوِّمُه بِحَدِّ السيف إذا أخطأ).

لم يَمُّر على هذا المشهد الديمقراطى الجليل إلا خمسٌة وعشرون عاما، جرى فيها ما نعرفه من فِتَنٍ انتهت بالخلافة الرشيدة وقد تحولت إلى مُلكٍ عضود .. وتَحوَّلَ المشهدُ العُمَرِىُ الواقعى الصادق إلى تمثيليةٍ ركيكة .. حاول (أحدُهُم) استنساخ الواقعة العُمَرية فى مجلس معاوية بن أبى سفيان فقال له (والله لَتَستَقِيمَنَّ بنا يا معاوية أو لَنُقَومَنَّك) فلم يَدَعْهُ معاويةُ يُكمِلُ جُملَتَه وسأله (بماذا؟) فانكمش السائلُ واستدرك قائلاً (بالخشب) فارتاح معاويةٌ فى جِلسَتِه وقال (إذن نستقيم) .. تاريخ الخلفاء للسيوطى.

مِن يومها وهذه الديمقراطية الخشبية هى السائدة (باستثناءاتٍ تؤكد القاعدة) تقودنا من تخلفٍ إلى تخلف (وهل يمكن أن تقود إلى غير ذلك؟!) .. ديمقراطية الشكل لا المضمون، أو كما قال شاعر العراق الكبير معروف الرصافى (عَلَمٌ ودستورٌ ومجلس أُمّةٍ .. كُلٌ عن المعنى الصحيح مُحَرّفُ .. ألفاظُ ليس لنا منها سوى .. أسمائها أما معانيها فليست تُعرَفُ).

عانينا كثيراً من هذه المجالس الخشبية والنواب الخشبيين، وإن اختلف نوع الخشب .. فهناك الأخشاب الصلبة كالبلوط والقرو والزان .. والأخشاب الليّنة وهى أطرى وأضعف من الأخشاب الصلبة، منها الطبيعى كالسويد والموسكى، ومنها الصناعى الأقرب للورق فى ضعفه وهَوَانِه كالخشب الحبيبى الذى يُصنَعُ من نشارة الخشب أو مصاصة القصب، والأبلكاج أو الأبلكاش بالعامية المصرية.

ولعل بعضنا لم يَنْسَ بعدُ رئيسَ التحرير الحكومى الذى جعل عنوان مقاله الافتتاحى بالخط العريض (لا لمبارك) فإذا جذبك العنوان لقراءة مَتْن المقال وجدته كله يدور حول لا لمبارك إذا رفض مطالب الشعب بتمديد فترته الرئاسية!!.. عِشنا هذه الأيام وناضلنا (وهَرِمنا) من أجل أن تَنفُضَ مصرُ عن جسدها الطاهر ديمقراطية الخشب، فذلك أول شروط التقدم الذى تستحقه.. الديمقراطية الحقيقية لا الخشبية هى الضامن لبقاء الإنجازات، إذ كلما اتسعت دائرة صُنع القرار كلما أَدَّى هذا إلى تحسين القرار (بالسين) وتحصينه (بالصاد).. قبل خمس سنواتٍ فقط كُنَّا نجمع التوقيعات على سبعة مطالب يجب أن تتوافر لأى انتخاباتٍ.. مطالب بسيطة مِن عَيِّنةِ الانتخاب بالرقم القومى والإشراف القضائى والفرص المتكافئة فى الإعلام إلى غير ذلك من البديهيات التى تُتيح للشعب حرية الاختيار كاملةً وتَغُّلُ يد الدولة عن العبث بها .. لأن أى انحيازٍ من الدولة فى العملية الانتخابية يُفقدها شرعيتها (الدولة والانتخابات) .. كان كثيرون ممن عادوا لصدارة المشهد الآن (للأسف) يَسخرون مِنَّا ومِن مطالبنا.

بكى كاتبُ هذه السطور وهو يقف فى طابور الانتخابات الطويل بعد ثورة يناير العظيمة (التى يسخر منها شُذَّاذُ الآفاق الآن) .. لم أكن منشغلاً بصراع الانتخابات ولا نتائجها ولكننى كنتُ أبكى فرحاً وحمداً لله الذى جعلنى أرى بعينى تحقيق هذا المطالب البديهية التى فَنِيَت أجيالٌ عظيمةٌ قبلنا دون أن تنعم بها .. لذلك فإن القلبَ يُدميه ما حدث على مدى الشهور الأخيرة من تدخلٍ فادحٍ وفاضحٍ (لا مبرر له) فى كل مراحل ما قبل صندوق الاقتراع، بدءاً من هندسة وتفصيل قوانين الانتخاب، مروراً بتشويهٍ ممنهجٍ لكل المحترمين لكى تخلو الساحة للعرائس الخشبية، انتهاءً بتدخلٍ أمنىٍ مباشرٍ لم يَعُد سراً بعد أن فضحته العرائسُ نفسها، فضلاً عن أن كاتب المقال ليس بِحَاجَةٍ لدليلٍ على ذلك كأحد شهود تجربة (صحوة مصر) .. لذلك لا أستطيع (احتراماً لعقلى) القفز على هذه المُقدمات الباطلة والتعامل مع ما أفرزته وكأنه برلمان، مهما حاولت استوديوهات التحليل الفضائية تخليقَ واقعٍ غير موجودٍ بالحديث عن ائتلافاتٍ وتحالفاتٍ وانسحاباتٍ ومعارك مفتعلةٍ بين عرائس الماريونيت وتخليق مُعارضةٍ مُصَنَّعةٍ والبحث عن شخصيةٍ محترمة من خارجه لرئاسته أو رَتُقِ الثوب المهترئ ببعض المُعينين بعد أن اتسع الخَرْقُ على الراتق .. مصرُ أكرمُ عند الله من هذا العَبَث .. يا سادة .. إن الدول لا تقوم على أساسٍ من خشب .. فما بالكم إذا كان السوس ينخر به!.

خارج الموضوع: مَرَّت أربعة أسابيع ولم نحصل على إجابةٍ لسؤالنا عن قضية الحسابات السويسرية التى اعترف بها علاء وجمال مبارك.. هل حُفِظَت؟ هل هى قيد التحقيق؟ أم قيد التصالح؟ نسألُ فهل مِن مُجيب؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف