الأهرام
جابر عصفور
عام الأحزان
كل الأحبة يرتحلون فترحل شيئا فشيئا من العين ألفة هذا الوطن، نتغرب فى الأرض نصبح أغربة فى التآبين، ننعى زهور البساتين لا نتوقف فى صحف اليوم إلا أمام العناوين، نقرؤها دون أن يطرف الجفنُ. سرعان ما نفتح الصفحات قبيل الأخيرة، ندخل فيها نجالس أحرفها، فتعود لنا ألفة الأصدقاء، وذكرى الوجوه، تعود لنا الحيوية والدهشة العرضية، واللون، والأمن، والحزن، هذا هو العالم المتبقى لنا: إنه الصمتُ، والذكرياتُ، السواد هو الأهل والبيتُ، إن البياض الوحيد الذى نرتجيه، البياض الوحيد الذى نتوحد فيه: بياض الكفن.

هذه الأسطر من شعر أمل دنقل لا تكف عن ترجيعها الحزين منذ أن توفى صديقى الحميم سليمان فياض، ولحق به صديقنا الحميم عبد الرحمن الأبنودى، ثم صديقنا العزيز جمال الغيطانى. وجاء الدور على على سالم فلحق بهم، وتلفت ملك الموت فوجد خليل كلفت فضن به علينا فأخذه ورحل، وعاود هبوطه ليحمل معه فى صعوده هانى مطاوع، وتلفت حوله فى رجعته الغادرة فوجد فؤاد قنديل وابتهال سالم فبسط عليهما جناحيه السوداوين وطار بهما. ولم يمل من رحلة الصعود والهبوط فأخذ خضير مرسى. ويبدو أنه اكتفى من الأدباء، فاتجه صوب الفنانين وحمل معه فاتن حمامة وعمر الشريف، وتلفت حوله فعز عليه أن يترك الفنان الجميل نور الشريف فحمله بين مخالبه الغادرة، تاركا لنا الإحساس بالفاجعة التى أكملها باختطاف سعيد طرابيك الذى انتزعه من حضن زوجه الشابة التى أراد سعيد أن يتحداه بزواجه منها، متعمدا مخادعة الموت.

لكن ماذا عن محمد وفيق ذلك الممثل العبقرى الذى أبدع فى دور الخديوى إسماعيل في رائعة محفوظ عبد الرحمن «بوابة الحلوانى». اختطفه طائر الموت الأسود الذى لم تنس مخالبه أن تنتزع روح ثريا إبراهيم، كأنها لم تكتف بما احتوته الأجنحة السوداء الصاعدة إلى عوالم الموت والهابطة إلى وهاد الحياة، وها هو العزيز محمد حافظ دياب أستاذ علم الاجتماع يودعنا باسما كعادته، غير خائف، ولا وجل، لأنه أدرك ما قاله صلاح عبد الصبور يوما من أن الإنسان ابن الموت، والفراق صعب، والخسارة لا تعوض. وكيف ومن أين تأتى مصر الحزينة بمن يحل محل فاتن حمامة أو عمر الشريف أو نور الشريف. وكيف يمكن لهذا الوطن الجمر أن يكتشف فى تربته الخصبة أبنوديا آخر أو جمالا غيطانيا يقف إلى جانب القامة السامقة لإدوار الخراط، هذا العزيز الذى لم أستطع حضور حفل تأبينه، فقد كنت ملازما فراش زوجتى فى غرفة الإنعاش، وهى تتقلب ما بين الحياة والموت. وكان حزنى عليها بعض حزنى على هؤلاء العمالقة الذين قدموا لوطنهم من ألوان الإبداع الكثير، ومن كانوا بعض ثروته وقواه الناعمة التى تتآكل شيئا فشيئا لأنه ما من روافد تستطيع أن ترفد هذه القوى بما يجددها، وبما يقوم بعملية إحلال وإبدال تبقى معها القوة الناعمة لمصر لا تفنى ولا تتبدل. ولكن للأسف يرحل عن مصر أعلامها وكبار مبدعيها، ولا يأتى غيرهم، ولا من يشغل أماكنهم التى ستظل شاغرة، تنتظر من يملؤها. فمن أين للكُتاب الشباب الذين يبدأون حياتهم بإدوار خراط آخر، يحتمل صخبهم لأنه يرى فى داخل هذا الصخب إبداعا صفيا نقيا، وكل ذلك وهو لا يتوقف عن الإبداع والترجمة كى يترك لنا ثروته الإبداعية الاستثنائية. لقد رحل إدوار الخراط الوريث الوحيد الباقى لحركة الحداثة المصرية التى شهدتها الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، حيث لمعت أسماء أنور كامل صاحب «الكتاب المنبوذ»، وورچ حنين الذى أسهم فى تأسيس الحركة السريالية العالمية. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يحمل الخراط راية الحداثة إلى النهاية، وأن يكون صوتها القوى فى مصر. وها هو إدوار قد رحل فكيف لنا أن يكون عندنا بديل له. وقبل إدوار هناك نقيضه الإبداعى ابن الأبنودى، عبد الرحمن، ذلك العبقرى الذى حفر فى العامية حتى عثر على عروق الذهب المدفونة فيها، فأخرج منها سبائك منظومة، كانت أصواتا للفرح والحزن والاحتجاج والغضب، وظل نبض الشعب وصوته الصادق، فى الدرب الذى سار فيه أحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين الذى مات مكتئبا بعد هزيمة 1967، خصوصا بعد أن رأى الحلم الذى بشر به وغنّى له قد انقلب إلى كابوس مخيف، فغرق فى الاكتئاب إلى أن احتوته أجنحة الموت الرحيم. وبالقياس نفسه من الذى يحل محل سليمان فياض؟، ذلك الصديق العزيز الذى جبت معه شوارع القاهرة العجوز، نبحث عن وعد جديد. وكنت أعرف قيمة هذا الأزهرى الآبق الذى تمرد على الكتب الصفراء للحياة فاستبدل بها نقيضها، وانطلق فى بحار الرواية والقصة القصيرة تاركا لنا ميراثا إبداعيا عظيما، أضاف إليه ما كتبه من معاجم وسلاسل قصص عن علماء العرب لكى يعرف الأحفاد أمجاد الأجداد وإبداعاتهم. لقد افتقدت بموت سليمان الأخ الكبير الذى كنت ألجأ إليه فى المشكلات التى تستعصى علىّ، والآمال التى أحلم بها. وكان وعيه الإبداعى فى رهافة حسه الاجتماعى الذى يجعله يحنو على الجميع. أما خليل كلفت ذلك الصديق القديم الذى أعرفه منذ الستينيات ناقدا أدبيا ومنظرا ماركسيا ومترجما ذا عقلية نقدية رحبة ومفتوحة، وما أكثر ما تعاونا فى المركز القومى للترجمة، ولم يكن رجل سلطة ولا محبا للسلطة، فعاش حياته زاهدا فى كل شىء، نهما فى طلب العلم، جسورا فى كتابة ما اعتقد أنه الحق. أما على سالم، فهو ذلك المبدع الجميل الذى أدهشنا بكتابته المسرحية الجديدة، والذى لم يتوقف عن فعل ما رآه صوابا حتى لو اختلفت معه الآلاف المؤلفة واختلف معهم ما ظل مؤمنا أنه على الحق.

تصوروا أن تفقد الحياة الأدبية فى عام واحد، هو هذا العام الذى رحل غير مأسوف عليه، كلا من عبد الرحمن الأبنودى وجمال الغيطانى وإدوار الخراط وخليل كلفت وسليمان فياض وفؤاد قنديل وابتهال سالم. أما جمال الغيطانى فقد كتبت عنه كثيرا، رحمه الله، فقد كان مبدعا أصيلا، وصديقا متقلبا، وكاتبا لا يشق له غبار. أما فؤاد قنديل فما أكثر ما كتب وما أقل ما كُتب عنه!. ومع ذلك لم يتوقف عن الكتابة التى كان يؤمن أنها حياته، فترك لنا عددا كبيرا من الروايات ومجموعات القصص. رحمهم الله جميعا. لقد كانوا بعض ثروة مصر الأدبية التى أخذت تتآكل مما ينذر بالخطر، خصوصا ونحن نعيش فى أجواء مرتبكة ينطبق عليها قول لبيد:

ذهب الذين يعاشُ فى أكنافهم وبقيت فى خلفٍ كجلد الأجربِ

وقد أكون مبالغا فى هذا الاستشهاد، ولكن كثرة الذين رحلوا عنا فى العام الذى رحل غير مأسوف عليه، بعد أن أوجعنا طائر موته الأسود بأجنحته التى تقبض على الحياة فتنهيها، تاركة لنا الحزن والشعور الدفين بالفقد. رحم الله كل الذين رحلوا، ومد الله فى أعمار الذين لا يزالون يحلمون باستعادة أمجاد مصر الثقافية والإضافة إليها. ولكن كيف؟! وعام 2015 يأبى أن يرحل إلا بعد أن يكلل حياتنا الثقافية ورؤوسنا بالشوك وبعار سجن المفكر والباحث المجتهد إسلام بحيرى الذى هو عار جديد يضاف إلى الثقافة المصرية التى نصفها بأنها قوتنا الناعمة فى الوقت الذى نقبل العار بسجن واحد من أكثر عقولها استنارة وشجاعة، بعد أن سبق أن قبلنا فى العصر البائد- حكم تفريق نصر أبو زيد عن زوجه فأصبحنا أضحوكة العالم المتقدم وموضع سخريته. وقد اجتهد إسلام بحيرى فاستحق أجر المجتهد حتى لو أخطأ فى مجال تجديد الخطاب الدينى الذى طالبنا به الرئيس نفسه مرات ومرات. فتأمل؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف