الصباح
خالد عكاشة
رحلة إسلام بحيرى من الشاشة إلى الزنزانة
>>أجهزة بعينها تتفنن فى صناعة أعداء وتعجز عن قراءة مشهد من السهل جدًا فهم تفاصيله
>>معظم متابعى مناظرة «البحيرى -الجفرى- الأزهرى» كانوا مرحبين بالتعامل مع إسلام كظاهرة فكرية
>>التمسك بالحريات العامة يستوجب أن نستمع لإسلام وغيره طالما الأمر لم يخرج عن السياق السلمى
>>فى الوقت الذى كان يجب مواجهة الإرهاب بافتتاح 27 قاعة مسرح فى محافظات مصر نغلق «مسرح روابط» ودار «ميريت»
>>كان ممكنًا استثمار قضية إسلام فى فضح أفكار التنظيمات المتطرفة
فى يوم الأربعاء الماضى حددت النيابة العامة موعد جلسة بتاريخ 4 يناير المقبل بمحكمة جنوب القاهرة الابتدائية، لنظر الاستشكال المقدم من هيئة الدفاع عن «إسلام بحيرى» بطلب لوقف تنفيذ الحكم الصادر ضده بالحبس لمدة عام بتهمة ازدراء الأديان، وكانت نفس ذات الهيئة المشار إليها قد طلبت فى وقت سابق من النيابة العامة إيقاف تنفيذ العقوبة، واستندت فى ذلك لصدور حكم بالحبس على خلاف مقتضى حكم نهائى بات سابق صادر بالبراءة من محكمة أكتوبر، عن ذات الواقعة وذات السبب والخصوم والموضوع، وهو ما يستوجب قانونًا إيقاف تنفيذ الحكم إلى أن تقول «محكمة النقض» كلمتها فى شأن هذين الحكمين المتعارضين، الحكم الذى ينفذ حبسه الآن إسلام البحيرى قضت به محكمة جنح مستأنف مصر القديمة الإثنين الماضى، والذى صدر بحبس بحيرى لمدة عام لاتهامه بازدراء الأديان، حيث أقام أحد المحامين دعوى ضد بحيرى مقدم برنامج «مع إسلام» على قناة «القاهرة والناس» الفضائية الخاصة، وكذلك ضد «طارق نور» صاحب القناة.
ظهر إسلام البحيرى للمرة الأولى على شاشات الإعلام فى فبراير 2013م فى تلك المناظرة الشهيرة أمام الداعية «محمود شعبان» الذى كان يدعو إلى تكفير رموز جبهة الإنقاذ ومشاركتها السياسية ودورها فى إسقاط الرئيس المعزول محمد مرسى، ثم بعدها ظهر بشكل منفصل فى برنامجه ليبدأ مسلسل الهجوم الذى اتخذ اتجاهات متعددة، بدءًا من جماعة الإخوان مرورًا بقيادات التيار السلفى ودعاتهم والمشاهير منهم خصوصًا، حتى انتقل بعدها إلى مرحلة خاصة بانتقاد المعتقدات والثوابت الدينية الإسلامية التى يتم الاستناد فيها لكتب تراثية شكك هو فى جدارتها من باب التجديد، وفق طريقة تعبيره الخاصة التى «لم ترق لكثيرين» واصل إسلام البحيرى على مدار 23 شهرًا تقريبًا برنامج «مع إسلام» على قناة «القاهرة والناس» بدءًا من مايو 2013م وحتى إبريل 2015م، استخدم فى تلك الفترة طريقة انتقاد كتب التراث الدينى مثل كتب صحيح البخارى ومسلم وغيرهما من الكتب، فضلًا عن انتقاده لكيفية التعامل مع الآخر المختلف معك فى العقيدة خاصة شركاء الوطن الأقباط، حتى وصلت ذروة الأزمة فى تلك المناظرة الشهيرة مع الدكتور أسامة الأزهرى والحبيب على الجفرى، حينما فاجأ الجميع بوصف الأئمة الأربعة بـ«الخوارج والمفسدين فى الأرض» وهى المقولة التى فتحت عليه النار من الأزهر بداية وبعدها ممن أقاموا ضده الدعوى القضائية المذكورة.
بالطبع ليس لدينا إحصاءات كاملة أو موثقة لكن باستقراء الرأى العام فى غالبيته ظهر بعد تلك المناظرة العديد من الاتجاهات المختلفة، جزء لا يستهان به من جمهور إسلام لم يرتح لمنطقه فى المناظرة ووصفه بأنه يحمل شيئًا جيدًا فشل فى طرحه والجدال حوله بالطريقة اللائقة، من تابع بشكل محايد انحاز أغلبه لمنطق وأسلوب كل من الأزهرى والجفرى خاصة وكلاهما لم ينكرا على البحيرى حقه ورغبته فى التجديد أو نقض القديم، لكنهما اجتمعا على ضرورة صون أدبيات ومقام العلماء القدامى وحقهم الموازى فى سلوك طريق آخر يقدر أيضًا، ويجب احترامه، والقسم الثالث الذى كان يناصب إسلام بداية العداء حتى من قبل تلك المناظرة خرج بروح المنتصر ووصف مناظرة العالمين له بضربة قاضية أصابته فى مقتل، وكشفت تهافت وسطحية منطقه، الغريب فى تلك التقسيمة المتعددة أن معظم أعضائها «إلا قليلًا جدًا» كان مرحبًا بالتعامل مع إسلام البحيرى كظاهرة فكريه، واتحد هذا المعظم فى انزعاجه من تحول الأمر إلى ساحات المحاكم وما استتبعه من صدور حكم بحقه يقتضى حبسه، هذا المسلك فى إجماله بدا متجاوزًا جدًا بحق شخص لم يستخدم سوى الطرح الإعلامى حتى مع ما احتواه من إثارة وشطط من وجهة نظر منتقديه.
الرأى العام عبر عن نفسه بنضوج كبير من خلال العديد من الكتابات تابعناها جميعًا طوال الأيام الماضية، تدور بمعظمها حول جملة مختصرة تتمثل فى أننا قد نكون لسنا من جمهوره ولم يرق لنا طرحه ولا أداؤه، لكن بكل المقاييس لا يجوز توقيع عليه عقوبة الحبس، هذا ما عبر عنه الجانب الذى فى غير صف إسلام وأراها تصيب الهدف تمامًا لكونها تستند على ثوابت أكثر رحابة، فالمشهد يمكن أن يحل فكريًا كما تم فى المناظرة وغيرها من هذه الأشكال الراقية فى الجدل، والتمسك بالحريات العامة التى يستوجب صيانتها بالمجتمع تفرض علينا بالفعل أن نستمع لمثل إسلام وغيره طالما الأمر لم يخرج عن السياق السلمى التام، ومواجهته الوحيدة تكون باستخراج الطرح المقابل له وهزيمته بهذا السلاح وحده إن ثبت فساده أو تنقيته وتنقيحه إن كان به بعض الجدية التى يمكن الاستفادة منها، وفى كل تلك الأشكال ما يصب فى اتجاه بعث الحيوية الفكرية المطلوبة وفتح نوافذ من الحرية لا يجوز تكميمها أو التضييق عليها، فمن غير المتصور أن تكون التهمة الفضفاضة «ازدراء الأديان» سيفًا مسلطًا تجر العديدين إلى ساحات المحاكم فى وقت يمكن حل معظمها بإجراءات عادية بحسب كل حالة وظروفها، ومثال ذلك كما تم مع إسلام نفسه فى البداية من خلال تراجع القناة التليفزيونية عن التجديد لعرض برنامج لم يرتح له قطاع ظاهر من الرأى العام، وأبدى الأزهر تحفظه ودخلت الأزمة إلى سياق المناظرة الفكرية، وكان الأمر لابد أن يقف عند تلك المرحلة.
ما سبق ذكره يدور فى معظمه داخل فلك الرافضين لإسلام أو المحايدين بالنسبة للقضية، لكن بالعودة لعنوان المقال، وهو فن صناعة الأعداء، هناك قطاع كبير أيضًا على الجانب الآخر ممن أبدى انزعاج وغضب مما تم مع إسلام نفسه ومع إسلام كنموذج، هذا القطاع الذى تم دفعه من دون اعتبار له إلى خانة العداء للوضع الراهن وتركه فريسة للظن بأن التضييق والحبس هو مصير لكل متحدث بما هو غير مألوف أو معتاد، تلك هى الآلية السهلة لصناعة الأعداء من دون مبرر أو بعدم الرغبة فى بذل الجهد فى التعامل مع هكذا أزمات، فالطرح هنا والذى يجب الانتباه إليه باهتمام أنه كيف يكون رئيس الدولة يدعو منذ توليه المسئولية إلى ضرورة تجديد الخطاب الدينى فى الوقت الذى يتم التضييق وحبس من يسلك هذا الطريق، رئيس الدولة طرح هذا الحديث فى إطار ضرورة محاربة الإرهاب بهذا السلاح، وكان حديثه موجها للعلماء المتخصصين من الأزهر والأوقاف، لكن الواقفين على هذا الجانب يرون أنه لم يخرج من تلك المؤسسات الكبيرة والمعنية شيئًا، فى الوقت الذى كان من الممكن استثمار قضية إسلام فى طرح الأفكار المجددة وتوجيه جهدهم فى فضح أفكار التنظيمات المتطرفة، وهذه الأخيرة لديها الرصيد الفكرى المنحرف الذى تسميه مرجعيات، والتى تستولى به على عقول شباب العالم وليست مصر وحدها، المهمة ثقيلة على العلماء الحقيقيين وعلى المؤسسة الدينية وأكبر كثيرًا من ضيق مشهد مقاضاة إسلام بحيرى أمام المحاكم، وكان الأوفق لهذه المؤسسة الدينية أن تسن هى قواعد للمواجهة الفكرية وتتصدى هى للأمر بدلًا من ترك المسألة للنزاعات القضائية، فباليقين هذه الآلية تصنع وتشكل للمجتمع أعداء مجانين لم يجدوا رشدًا فى التعاطى معهم حتى وإن كانت تشوب مسلكياتهم انحرافًا ما، فهم فى النهاية خامة صالحة يمكن التعاطى معها طالما لم يعبروا الطريق إلى الضفة الأخرى ويتسلحوا بالكلاشنكوف والأحزمة الناسفة.
فصل آخر من فصول صناعة الأعداء دارت وقائعه فى نفس الأسبوع المنصرم وفى وسط مدينة القاهرة تمامًا، حيث قامت أجهزة الأمن بمداهمة مقر «دار ميريت للنشر» والقبض على بعض العاملين بها قبل الإفراج عنهم فى نفس يوم واقعة القبض، وقبلها بأيام تم إغلاق قاعة «مسرح روابط» الموجودة بنفس المربع الجغرافى لدار النشر، حقيقة قوات الأمن هى من قامت بهذه الحملات ومن غير المعلوم إن كان هذا لصالح تنفيذ قرارات لجهات أخرى طلبت من الأمن تنفيذ ذلك، كما صرحت الأجهزة الأمنية فى واقعة دار النشر بأنها كانت على خلفية مخالفات فى أرقام الإيداع للكتب التى تنشرها الدار، وهى من نوعية الاتهامات الإدارية وأظن المسرح المغلق ضحية مثل تلك الاتهامات التى لم تقنع أحدًا، فالإجراء الأمنى تم فك شفرته بسهولة أنه فى إطار التضييق على مرتادى هذه الأماكن خاصة مع اقتراب موعد ذكرى ثورة يناير، خاصة أن الثورة فى طبعتها الأولى عام 2011م شهدت تواجدًا كثيفًا لعناصر شبابية من المشاركين فيها كانوا يقضون أيامها فى تلك الأماكن المشار إليها، وهنا يتكرر بوضوح فنون صناعة الأعداء فالسياق العام مختلف تمامًا اليوم فى العام 2016م، فهؤلاء المرتادون المستهدفون إن افترض تواجدهم هم فى صف الدولة المصرية قلبًا وقالبًا، ويقفون بعد تجربة السنوات الخمس الماضية فى خندق الوطن الصريح، فهم ضد الإرهاب وضد الإخوان المسلمين وضد من يخطط لإعادة إنتاج مشهد كان محكومًا بسياقه الزمنى وغير قابل للاستنساخ لا الزمانى ولا المكانى.
لماذا تبدو أجهزة بعينها بالفعل تتفنن فى صناعة أعداء وتعجز بغرابة عن قراءة مشهد من السهل جدًا تفكيك مفرداته وفهم تفاصيله، ففى الوقت الذى تتطلب مواجهة الإرهاب افتتاح 27 قاعة مسرح فى محافظات مصر جميعها نقوم نحن بإغلاق قاعة فى وسط العاصمة، ومثلها دار النشر الثقافية بدلًا من تدعيمها وبث الحيوية فى نشاطها وفى مثيلاتها وتقديم تسهيلات تعيد الزخم الثقافى للشارع ولاهتمام الشباب نوجه لها ولغيرها ضربات مريبة تحت الحزام، ليكون من السهل جدًا وضع كل تلك الممارسات فى سلة انطباع واحد بجوار تفاصيل قضية إسلام البحيرى، والسلة ذات الصوت الواحد والمرفوض فيها التعدد والنوافذ المفتوحة وحرية النقاش على تلك الخلفيات الوطنية الثابتة تصنع يوميًا مزيدًا من الأعداء، والمؤسف فى الأمر أنهم أعداء مجانيين افتقادهم كأنصار حقيقيين خسارة كبيرة يصعب تعويضها، ويشوشون على ضرورات المواجهة الجادة وخطورتها التى لا تحتمل المزيد من هؤلاء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف