الوطن
جمال عبد الجواد
على مسرح السياسة
هناك وجه شبه كبير بين السياسة والعروض المسرحية، ففى الحالتين هناك لاعبون actors، وهناك جمهور يشاهد ليصدر حكمه فى نهاية العرض أو ربما يقرر مغادرة العرض قبل اكتماله.

العروض المسرحية مثلها مثل السياسة تحتاج إلى إبداع وتجديد وحبكة مقنعة تبقى الجمهور منتبهاً للعرض حتى نهايته، وربما ظل يتذكره بعد ذلك حتى إنه قد يعود لمشاهدته مرة ثانية وثالثة، أو يبلغ إعجابه بأداء اللاعبين إلى مدى يدفعه لمواصلة متابعتهم فى عروضهم التالية.

فى المسرح كما فى السياسة، للاعبين الحق فى استخدام أى حيلة تروق لهم، فيما يظل الجمهور محتفظاً بحقه فى إصدار الحكم النهائى على العرض وجودته. الفارق المهم بين المسرح والسياسة هو أن عرض المسرحية غير المحبوكة قد يتوقف بعد عدد محدود من ليالى العرض، فيما قد يستمر اللاعبون على مسرح السياسة فى أداء أدوارهم حتى بعد أن يفقد الجمهور الاهتمام ويتوقف عن المشاهدة.

السياسة فى هذا تشبه مسارح الدولة التى قد تواصل تقديم العرض نفسه ليالى عدة، حتى لو لم يكن هناك مشاهدون يدفعون ثمن تذاكر الدخول اكتفاء بالمشاهدين الذين تصلهم التذاكر المجانية والدعوات الخاصة حتى باب البيت.

فى المسرح كما فى السياسة هناك أدوار كثيرة تقوم بها شخصيات لا تظهر أبداً على المسرح ولا يشاهدها الجمهور ولا يعرفون أسماءهم أو أشكالهم رغم إدراك الجميع أنه لا يمكن للعمل أن يكتمل بدون هؤلاء.

وعلى قدر أهمية الدور الذى يقوم به اللاعبون خلف المسرح لإنجاح العمل على قدر أهمية عدم ظهورهم على المسرح بأى شكل، وإلا تم إفساد العمل نفسه. حتى فى عروض مسرح العرائس التى يحرك فيها اللاعبون من وراء ستار عرائسهم، فإن الجمهور يتفاعل مع العرائس الخشبية، ولا يحب أن يرى يد المحرك وراء الستار، وكلما كانت الخيوط التى تصل بين العرائس والأيدى المحركة لها رقيقة وشفافة كان العرض أفضل، فتبدو العرائس كما لو كانت الروح قد دبت فيها، وباتت تغنى وترقص وتمثل من تلقاء نفسها.

الجمهور لا يحب أن يرى مهندس الإضاءة وهو يضبط أوضاع المصابيح والكشافات على المسرح، أو يفاجأ عند دخوله صالة العرض بمهندس الإضاءة وقد فاته أن يضع بعيداً السلم الذى يستخدمه للوصول إلى المصابيح المعلقة فى الأسقف العالية.

يدرك الجمهور أهمية الدور الذى يلعبه الملقن المختبئ فى «الكمبوشة» لإنجاح العمل المسرحى، ولكنه يحكم على العمل بالفشل إذا سمع صوت الملقن وهو يرشد الممثلين للنص الواجب الالتزام به، أو إذا تبين له أن الممثلين لم يحفظوا أدوارهم، وأنهم ينتظرون الملقن لإرشادهم فى كل جملة ينطقونها أو حركة يقومون بها، فالملقن موجود لإنقاذ الموقف فى وقت الأزمات المفاجئة، ولكن إذا انتظر الممثلون تعليماته قبل كل كلمة أو حركة، فسيتحول العرض كله إلى أزمة كبيرة ممتدة، ولكف أداء الممثلين عن أن يكون مقنعاً، فيصدر الجمهور حكمه القاسى على العمل برمته.

شىء من هذا حدث فى المشهد البرلمانى، ففيما تم إجراء الانتخابات بحنكة عالية لاقت استحسان الجمهور وكثير من النقاد، فركزوا الأضواء على أداء اللاعبين الذين تحولوا أبطالاً رغم إدراك الجميع للدور الذى لعبه الجنود المجهولون الواقفون خلف خشبة المسرح السياسى.

تمنى الجمهور والنقاد لو أن الأبطال كانوا فعلاً على نفس الدرجة من الحنكة التى أداروا بها المنافسة الانتخابية، وتمنوا أيضاً لو أن اللاعبين من وراء الستار كانوا قد أعدوا أبطالهم لمواصلة الأداء الجيد فى الفصول التالية، فكتبوا لهم نصاً مكتملاً، ودربوهم على التعامل مع المواقف المفاجئة، ووقفوا يراقبون ما يجرى من بعيد وكلهم ثقة فى قدرة أبطالهم على مواصلة المشاهد كلها حتى النهاية.

للأسف لم تسر الأمور على هذا النحو، وتبين للمشاهدين والنقاد أن النص غير مكتمل، وأن القائمين على العمل فى كواليس المسرح ما زالوا يواصلون التأليف، وأن لديهم وجهات نظر وآراء متعددة بشأن ما سيحدث فى الفصول التالية، وأنهم غير متفقين على الطريقة التى سيتم بها تسوية الاختلافات فيما بينهم، فيما الأبطال يقفون على المسرح أمام جمهور يريد للسيناريو أن يتواصل بلا توقف، وللحوار أن يستمر بلا تلعثم. وفى غياب الاتفاق على نص موحد ومنسجم، راح كل لاعب من وراء الستار يوجه الأبطال التابعين له فى الاتجاه الذى يراه مناسباً، فتضاربت المواقف والتصريحات، وقيلت أشياء كثيرة تم الاعتذار عنها أو إنكارها بعد قليل، واتخذت كثير من المواقف تم التراجع عنها بعد ذلك. أكثر لحظات المشهد المرتبك درامية كانت تلك التى صب فيها بعض الأبطال غضبهم على اللاعبين من وراء ستار، فراحوا ينتقدونهم ويحملونهم المسئولية عن الفوضى العارمة، وبرزت هوية اللاعبين من وراء الستار حتى طغت على شخصيات الأبطال المرتبكين فوق المسرح، وانزوى دور الأبطال الذين شهدناهم فى فصل الانتخابات، وكرس الجمهور والنقاد جهدهم لمتابعة ما يدور وراء الكواليس التى انتقلت إلى مقدمة المسرح، فكفوا عن متابعة العرائس الخشبية، وركزوا أعينهم على الخيوط والأيدى الممسكة بها.

الأداء فى الفصل الأول كان مقنعاً بقدر كاف لدرجة جعلت كثيرين من النقاد يسلطون الضوء على ما يجرى فوق خشبة المسرح متجاهلين ما يجرى خلفها باعتباره «شىء لزوم الشىء»، لكنهم لم يستطيعوا التمسك بالقناعة نفسها بعد الأداء الركيك فيما تلى من فصول. فهل يتدخل المخرج لفرض الانضباط والمهنية على معاونيه من أجل استعادة الأداء المقنع الذى شاهدناه فى الفصل الأول حتى يمكن استعادة حضور ما تيسر من الجمهور وما أمكن من تقدير النقاد؟

فى المسرح كما فى السياسة هناك أدوار كثيرة تقوم بها شخصيات لا تظهر أبداً على المسرح ولا يشاهدها الجمهور ولا يعرفون أسماءهم أو أشكالهم رغم إدراك الجميع أنه لا يمكن للعمل أن يكتمل بدون هؤلاء وعلى قدر أهمية الدور الذى يقوم به اللاعبون خلف المسرح لإنجاح العمل على قدر أهمية عدم ظهورهم على المسرح بأى شكل وإلا تم إفساد العمل نفسه
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف