مازالت أعمال ويليام شكسبير تمثل نبعاً لا ينضب بالنسبة لـ "صناع السينما" ومصدراً لإلهام عشرات الأعمال السينمائية فلا تمر فترة من الزمان حتي نجد واحدة من مسرحياته علي الشاشة. فالأعمال الأدبية العظيمة تبقي مطمعاً للمبدعين تغوي المخرجين الكبار الذين يمتلكون القدرة الفنية والانتاجية علي بعث الشخصيات والموضوعات بنفس القوة الدرامية والعمق والتأثير وبلغة بصرية تحاكي نفس الأجواء التاريخية بنفس العظمة والإيحاء.
كثيرون من المخرجين الكبار من أمثال أورسون ويلز. واكيرا كيروساوا وبولانسكي استطاعوا أن يطوعوا الأعمال السينمائية المقتبسة عن مسرحيات هذا العبقري الانجليزي الذي مرت قرون علي وفاته سنة "1616" وأن يُضفوا عليها معاني تتسق مع كثير من تلك التي تتلاءم مع زماننا.
آخر الأعمال المقتبسة فيلم "ماكبث" الذي عرض عام 2015 واعتبره النقاد ضمن أفضل الأفلام التي شاهدها الجمهور في هذه السنة .2015
و"ماكبث" ضمن أشهر التراجيديات الشكسبيرية التي أبدعها ذلك الروائي والأديب والشاعر الانجليزي الخالد في عام 1564 والتي تحولت جميعاً إلي أفلام من جنسيات مختلفة.
فالمسرحية تمنح صانع الفيلم القدير والمبدع مساحة لاستعراض لغة مرئية منظرية تشبع الناظرين بصرياً مثلما تقوم اللغة المنطوقة الرائعة للشاعر بإشباع حاسة السمع.
"غابات برنام" التي تتحرك حسب النبوءة. وحرائق الغابات التي تضع لوحات من الدخان الغميق واللهب الأحمر ثم نبوءة الساحرات الثلاثة اللاتي اعترضن طريق البطل المقاتل أثناء عودته من الحرب ومشاهد المعارك المصورة وسط الضباب الكثيف والمقاتلون الخارجون من وسط سحابات الدخان. كلها مشاهد تمنح عناصر الاخراج والتصوير فُرصاً للإبداع المرئي الآسر.
وإلي جانب هذه الأجزاء المنظرية الموحية والمعبأة بالإشارات والمعاني التي تسبق الفصل الأخير من تراجيديا البطل المأساوي الذي يسقط في النهاية صريع نقاط ضعفه واستسلامه للطموح الأعمي وللغواية التي تقف وراءها وتقويها زوجة "ماكبث" "ليدي ماكبث" هذه المرأة التي أغرقت "البطل" في بحر من الدماء ودفعته إلي ارتكاب عدد من جرائم القتل ضمن عوامل أخري مركبة ومتداخلة في نسيج العمل ككل.
إن "ماكبث" بطل مغوار وإنسان ومحارب جسور ومُلهم ولديه نقاط ضعفه مثل أي بطل تراجيدي. وهذه المنطقة تحديداً "الضعف الإنساني" هي ما سوف توجه لها السهام التي تؤدي إلي سقوطه وخسارة كل ما كان يحلم به من أمجاد.
قلت ان الأعمال الكبيرة تشكل "مساحة" للغواية. وللاختيار. وللتحدي. صحيح ان صناعة الترفيه إذا لم تكن بالقوة الكافية فإنها كثيراً ما تعود إلي إعادة انتاج الأعمال الفنية الناجحة التي حققت شعبية كبيرة بغض النظر عن قيمتها. وهذا غالباً ما يحدث عندنا هنا في مصر. وكثيراً ما يكون ذلك مصدراً للتساؤل والتحقيق من قبل المحررين الفنيين مثلما حدث مع مسلسل "ليالي الحلمية" وأعمال أخري من قبله. ومثلما يحدث مع أفلام سينمائية يعاد انتاجها لمجرد استثمار شعبيتها..
وفي حالة شكسبير فهناك علي النقيض حدود دنيا للطموح أو قل "الصفاقة" الفنية فلا يجرؤ مخرج ضعيف أو حتي متوسط المستوي أن يقترب من عمل أدبي لشكسبير دون أن يسقط في هوة الفشل الذريع.. فالأعمال العظيمة تمتلك "مناعة" ضد التطفل والبجاحة الفنية.
مخرج النسخة الأخيرة من "ماكبث" هوستن كورال استرالي الجنسية وهو أحد الذين برعوا مؤخراً في تصوير شخصية الإنسان المتعطش للنساء والغارق في مستنقع الجريمة وفيلمه "سنو تاون" "snowtown) يكشف عن هذه القدرة.. مثلما يكشف عن مهارة في اجتياز الممثل المناسب للدور وقد اتضح ذلك علي نحو لافت للانتباه عند اختياره الممثل مايكل فاسبندر لأداء شخصية "ماكبث" واختار الممثل ماريون كوتيارد في دور "ليدي ماكبث" المرأة التي غوت البطل المحارب لارتكاب سلسلة من جرائم القتل حتي يصل إلي العرش حسب نبوءة الساحرات.. فقد بدأت بذور الغواية بهذه النبوءة.. وهذه الطبعة من الشخصية "ماكبث" تصور الإنسان في أكثر حالاته قوة واستعداد للانطلاق حتي آخر المدي انصياعاً وراء شهوة الطموح والصعود لقمة السلطة وبدت الزوجة علي النقيض منه ذات وجه جميل لا تمل النظر اليه ورغم ذلك فإنها تمثل القوة الدافعة التي تمارس سطوتها بحنكة وثبات.. ولكن هناك عناصر الطبيعة والقدر التي تجدها دائماً عند شكسبير ولا يمكن أن نغفل ذكر تأثيرها في مسار حياة أبطاله.