مؤمن الهباء
شهادة رسالة في أدب التواضع
كان أديبنا الكبير ثروت أباظة صاحب رواية "شيء من الخوف" طيب القلب عطوفاً.. كان ـ رحمه الله ـ له قلب طفل.. لكنه كان سريع الغضب سهل الاستفزاز.. وكان أيضاً سريع الرضا والصفح.. لذلك كثرت معاركه الأدبية والسياسية والشخصية.. والغريب انه كان يعرف عن نفسه ذلك ويسعي للتغلب عليه.. ولكن هل يستطيع المرء أن يتغير بسهولة وأن يقاوم طبيعته التي فطر عليها أو التي اكتسبها صغيراً؟!
كان كاتبنا الكبير يحاول كثيرا ضبط مشاعره عن طريق الكتابة والاستعانة بأصدقائه.. وقد كتب في ذلك يقول:
أذكر ان ناقداً تناول عملاً لي بنقد قاس عنيف في إحدي المجلات العربية ووجدت نفسي وأنا أقرأ المقال أثور ثورة عارمة وأعد نفسي للرد عليه وفي غضبتي طلبت أستاذنا نجيب محفوظ لأشهده علي هذا النقد الجائر الذي كتبه ذلك الناقد فإذا نجيب يشعر بالثورة التي تعتمل بنفسي ويقول في هدوء رزين: "الله.. ماذا جري يا فلان وهل تنتظر أن يرضي عنك كل الناس. إننا إذا أرضينا نصف قرائنا نكون قد حققنا نجاحا ساحقا".
ونزلت كلماته علي ثورتي ماء قراحا ووجدت نفسي سعيدا بعد غضب هادئاً بعد فورة. إذا كان نجيب محفوظ يقول هذا فإنه يصبح حتماً علي ألا أغضب لنقد أبداً.
ومنذ ذلك الحين ـ يقول ثروت أباظة ـ لم أرد علي ناقد لعمل لي قط وما أحسب انني سأرد علي ناقد لي أبداً.. وفلسفت هذا الموقف بنفسي بأنني إذا كنت اليوم حياً وأستطيع أن أناقش ناقداً فماذا أنا صانع في غد حين أكون بجوار كريم وينقد ناقد كتابا لي.. واقتنعت أيضاً انه مادام الناقد قد كون رأيه عن كتابي علي النحو الذي نشر به نقده فذلك شأنه. فإنه إذا كان صادقاً مع نفسه فهو يعبر عن موقع عملي في نفسه تعبيرا أميناً. أما إذا لم يكن صادقاً مع نفسه فما حاجتي إليه وما حيلتي فيه.
أما الذي يسبني دون نقد فإنني أجد نفسي كإنسان مسوقا إلي الرد عليه لأبين له علي الأقل ان السباب أيسر الأمور وانه ان كان يبيح هذا لنفسه فعليه أن يتحمل ما أبيحه أنا أيضاً لنفسي.
وأما إذا كان السباب من نكرات يحاولون به أن يتواثبوا علي أكتافي فإنني أحرمهم من تحقيق أملهم ولا أذكرهم وكأنهم ما قالوا وما كانوا.
وكم اختلفت مع أبي الروحي توفيق الحكيم وكم احتدم بيننا النقاش ولكن هذا الخلاف لم يستطع يوماً أن يمس شعوري نحوه بالبنوة وشعوره نحوي بالأبوة وهي بنوة وأبوة لا تقف عند المشاعر. بل تعدوها إلي أنه يعتبرني المسئول الأول عن كل ما يمكن أن يطلبه أب من ابنه في مألوف حياة الأبناء والآباء.
وكم اختلفت مع أخي الأعز الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي رحمه الله وقد كتب كل منا رأيه المعارض للآخر فما ندت مني كلمة تمس احترامي له وإكباري وما خط قلمه في معارضتي إلا كل حب وعفة.
رحم الله كاتبنا الكبير طيب القلب ثروت أباظة.. ورحم الله هذا الجيل الرائع من الكتاب والأدباء الذين كانوا يتوافقون ويتعارضون بأدب واحترام.. فخلقوا بيئة أدبية واجتماعية راقية.. وعلموا الناس ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. وان السمو في التواضع.. فرأيي صواب يحتمل الخطأ.. ورأي غيري يحتمل الصواب.. ولا أحد يملك اليقين الكامل والحقيقة الكاملة إلا الله جل شأنه.. فتواضعوا ترتقوا.