نعم.. فى التاريخ القديم لبلادى كان اسمها «أرض البقر» لكثرة ما كان بها من أبقار فى ظل مراعى مترامية الأطراف، وفى ظل الاحتلال الرومانى سموها مع واحة الداخلة والواحات البحرية «أرض الغلال» لأنها كانت سلة الحبوب، وبخاصة القمح، للإمبراطورية الرومانية. وفى عصرنا هذا قالت ناسا إنها ضمن صحراء مصر الغربية التى هى أكبر خزان للمياه الجوفية فى العالم. تحية من واحة الفرافرة، يا سادة، التى كان من المنطق أن تنطلق إشارة بدء مشروع زراعة المليون ونصف مليون فدان منها. ليس فقط لأنها تمتلك المياه والتربة والمناخ، ولكن لأسباب أخرى باتت تحتم علينا الامتداد الغربى لتلك الحدود الطيبة.
قد تقولون: ولماذا كانت البداية من تلك النقطة البعيدة فى قلب صحراء تبعد 627 كيلومتراً عن القاهرة؟ وأجيب أنه بات لزاماً علينا الخروج من الوادى الذى ضاق بنا إلى هذا البعيد الذى علينا استصلاحه ومدّ جسور التنمية معه. فالبعيد سيظل بعيداً وموحشاً لو لم نذهب إليه، كما أن حدودك الغربية لا تقل أهمية عن سيناء فى ظل تحول ليبيا إلى دولة فاشلة سياسياً لا تصدّر سوى الإرهاب الممول من أجهزة مخابرات لم ترضَ عن بقاء بلادك، لذا لزم علينا تعمير صحارينا المهجورة وتأمين ناسها.
وهكذا بدأت رحلة المليون ونصف مليون فدان زراعة، بعشرة آلاف فدان فى الفرافرة. خطوة فى المرحلة الأولى التى تضم 500 ألف فدان تحتاج 1315 بئر مياه بتكلفة مليار و775 مليون جنيه. لنعلم أن ما تم تنفيذه من تلك الآبار هو 667 بئراً وجار تنفيذ 58 بئراً أخرى، لتتراوح إنتاجية البئر الواحدة فى اليوم من 400 إلى 1200 متر مكعب من المياه. تسعد عند سماعك أن نسبة ملوحة المياه فى الفرافرة تتراوح بين 200 و250، وهى أقل من نسبة ملوحة مياه النيل. مياه ستمنح الخضار لنحو 50 ألف فدان فى الفرافرة وحدها.
سألت أحد مهندسى المشروع ونحن هناك: ماذا بعد مائة عام من استخدام مياه الآبار؟ فأجابنى بأن هذا تقدير رمزى فى حال عدم ترشيد استهلاك المخزون، ولكن المتوقع أن تمتد لمئات السنين مع الوعى بكل نقطة مياه. ولذا كان التخطيط لزراعة المحاصيل غير الشرهة للمياه وإعادة استغلال وتنقيتها مرات عبر التكنولوجيا. سواء فى الصرف الصحى للمنازل أو الأرض. أستشعر الراحة من إجابة تأتى كرسالة من الله فى ظل وقت تتهددنا فيه مزاعم اغتصاب حق فى سد النهضة. ولكن تأتى كلمات رئيس بلادى فى الفرافرة لتؤكد لى أن مياهنا أمن قومى نعلم ما علينا تجاهه دون استعراض قوى فعله مرسى ورفاقه فكانت فضيحة عالمية.
ولماذا نطمئن لمشروع مثل هذا وقد سبقه توشكى ولم نسمع عنه شيئاً؟ أجيبك بأن الجديد اليوم أنه لم يهمل توشكى، بل جعلها ضمن خطة التطوير لاستصلاح المزيد من الأراضى الزراعية ضمن المرحلة الأولى، وعبر ضمها لخريطة الآبار التى شملت نحو 50 بئر مياه جوفية وعمل موقع متخصص للآبار يدار بالطاقة الشمسية. أضف إلى هذا أن اليوم ليس لأحد امتلاك رفاهية الخطأ أو بناء أمجاد شخصية. اليوم نكون أو لا نكون.
ولكن فى ظل مساحات الأمل تلك، علينا التأكيد على فكر المستعمرات الزراعية الصناعية. بمعنى زراعة محاصيل تقوم عليها صناعات يتم تعبئتها وتصديرها أو استخدامها للسوق المحلية. فإذا كنا نستورد نحو 70% من احتياجنا من الزيوت، فيمكننا زراعة عباد الشمس والكانولا بمساحات ضخمة وعمل مصنع استخراج وتعبئة زيوت فى ذات المنطقة. كذلك علينا قطع يد الفساد فى تلك المشروعات من البداية حتى لا تضيع مواردنا على بطون لم ولن تشبع من الامتلاء بالحرام حتى ولو على جثث البلاد والعباد. كما علينا التفكير بعقل وقلب مفتوح على المستقبل متحرر من قيود الماضى المتسبب فى الأزمات. فعلى سبيل المثال، لا يصح أن يكون فى قرى الفرافرة الثلاث المزمع تسليمها فى أبريل المقبل مسجدان ولا يكون بها كنيسة لأهلى. ولا يُعقل أن يوجد عم سيد فى منزل من منازل القرى ويلتقى بالرئيس، بينما ملامح الشركة المنظمة للمشروع لم تتضح بعد، وكذلك قواعد اختيار من يستطيعون الحصول على الأرض والمنازل؟ ولذا علينا التفكير بمهنية واحترام لعقلية شعب سئم الاستهزاء به، وغلق أبواب التشكيك التى يعشق المزايدون فتحها علينا دوماً.
دمتم وعاشت بلادى بهية.