من يحس القوة لا يتردد فى القهر، فما إن يشعر فرد أو جماعة أو دولة بامتلاك أدوات القوة حتى تبادر إلى استخدامها، والتحكم فى غيرها من خلالها، تلك سنة من سنن الله فى خلقه، منذ أن وجد «آدم» على الأرض، فعندما شعر ولده «قابيل» بامتلاك القوة سارع إلى قهر أخيه «هابيل»، يقول المولى عز وجل: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ»، كان موقف «هابيل» موقفاً استثنائياً، حين عاتب أخاه عتاباً مراً، ورفض استخدام ما يمتلك من أدوات قوة فى مواجهة «قابيل»، حتى ولو كانت حياته هى الثمن، وهو ما وقع بالفعل حين طوعت النفس الأمارة بالسوء لـ«قابيل» قتل أخيه، لم يدفع «هابيل» الثمن وحده، بل دفعته البشرية كلها، لأن بمقتله انقطع نسله الذى يحمل فكرته، ولم يبق للحياة سوى أبناء «قابيل» الذين تعلموا من أبيهم الدرس الذى يقول إن امتلاك القوة لا يعنى شيئاً سوى استخدامها فى قهر الأضعف.
بإمكانك أن تجد مشاهدات عديدة لثنائية القوة والقهر فى الأحداث المحيطة بنا، أمامك على سبيل المثال دولة مثل العراق، أيام صدام حسين، كانت القوة والغلبة والحكم والسيطرة فى يد «صدام» السُّنى، فبادر إلى استخدمها ضد الحلقة الأضعف حينذاك، والمتمثلة فى الشيعة والأكراد، وعقب الغزو الأنجلو أمريكى للعراق، سقط «صدام»، وتبدلت المواقع، فتراجع السُّنة، وامتلك مستضعفو الأمس (الشيعة) أدوات القوة، وسيطروا على الحكم، فأعدم «صدام»، وبدأ القتل هناك على الهوية السنية، واستظل الشيعة فى ذلك بالدعم الإيرانى. وبعد حين خرج واحد من مستضعفى السنة، وهو أبومصعب الزرقاوى، فنادى بامتلاك القوة واستخدام أدواتها ضد الشيعة، فبدأت المذابح الجماعية للشيعة على يد رجل «القاعدة»، ومِن رحم «الزرقاوى» وجماعته خرج «داعش»، فاشتعل ماراثون المذابح الجماعية التى ينفذها كل من السنة فى الشيعة، والشيعة فى السنة، وأخذ القهر الداعشى يتمدد إلى الإيزيديين والمسيحيين، بل وللمسلمين السنة. ومن وراء هذا المشهد كانت تقبع الولايات المتحدة الأمريكية التى تمتلك الأدوات الأقوى، فبدأت تستخدمها وقتما تريد، وتبيعها وتتاجر فيها حين تشاء، وتصاعدت مكاسب التاجر الأقوى أكثر وأكثر حين تورطت جيوش فى سياق المعادلة الثنائية المذكورة، لتثبت أنها المعادلة الأكثر قدرة على تفسير الواقع الحالى الذى تعيشه المنطقة.
جميل أن تتأسف على سحق مستضعف، وأن تحزن لسفك دم أو كرامة مقهور، لكن حذار أن تفرط فى التفاؤل وتتوقع أن وضعه سوف يختلف عن قاهره إذا امتلك القوة، بل قد يكون أكثر شراسة منه، تلك واحدة من أزمات البشرية، وهى تطل بوجهها الأكثر بشاعة وقبحاً فى المنطقة العربية التى أصبحت الكلمة الأولى فيها للقوة ولأدواتها. ما يحزن فى الأمر حقاً أن كل الأطراف التى تمارس القوة أو تعيش الاستضعاف تتمحك بالدين أو الوطنية، حتى تمنح أدوات قهرها غلالة أخلاقية. والحقيقة تقول إنهم غارقون فى الدنيا.. وخير لهم أن يتركوا الدين فى حاله!