أحيانا لا ينتبه بعضنا إلى أن تصرفاتهم الفردية ستكون لها انعكاسات سيئة للغاية ـ إن لم تكن بالغة السوء ـ على وطننا، وعلى صورته بين الأمم المتحضرة، نظرًا لحالة السيولة والميوعة وعدم الانضباط المستشرية، وتراجع الإحساس العام بالمسئولية، بدلا من التركيز فيما يفيد البلد وأهله وليس الإضرار بهم.
أقول هذا الكلام بمناسبة دعوى غريبة الشكل والمضمون رفعها، أواخر العام المنقضي أحد قاطني، حارة اليهود أمام القضاء الإداري يطالب فيها بتغيير اسمها، لماذا يا سيدي المواطن؟ لأنه لا يعيش فيها الآن أي يهود، ويسكنها ثلة من المسلمين والمسيحيين، وأنه يخشى أن يُفهم أن ما هو قائم حاليا في هذه المنطقة الشاسعة المساحة من متاجر وحركة تجارية مزدهرة منتعشة من صنع اليهود، وأنهم أصحاب الفضل فيها.
الدعوى في حد ذاتها هزل ما بعده هزل وخارج السياق، وكان قضاؤنا واعيًا وحصيفًا بالقدر الكافي الذي جعله يقضى برفضها شكلا وموضوعا، طبعا لم يفطن مقيم الدعوى إلى الدلالات السلبية التابعة لدعوته ليس على نطاقه وحيزه الضيق وإنما على البلد بكامله.
أعرف أن كثيرين سوف يمصمصون شفاههم ويبدون امتعاضهم الشديد ارتكانا إلى أنه لا توجد قضية من الأصل، وأن صاحبنا معه الحق، وأن من تبقى من اليهود لا يتجاوز عددهم 20 شخصا، جلهم من الطاعنين في السن، وهنا بيت القصيد.
فمثل هذه النظرة القاصرة تمثل لب الموضوع، لأنها تتعامل مع اليهود على أنهم ليسوا مصريين، وتنزع عنهم الرداء الوطنى، فهؤلاء مصريون يدينون باليهودية، ولهم كامل الحقوق الممنوحة لأبناء الشعب المصري دون انتقاص، وإن كان بعضهم شارك فى الماضى فى عمليات مخابراتية ومكائد ضدنا لمصلحة إسرائيل فإنهم القلة وليس الأكثرية.
ثم يجب ألا نتجاهل أن اليهود كانوا يشكلون جزءا مهما وأصيلا من تركيبة ونسيج المجتمع المصري قديما وحديثا، وأنهم اندمجوا وتفاعلوا مع محيطهم الاجتماعي، وكانت لهم إسهاماتهم المشهودة، خاصة على المستوى الاقتصادي والفني، برغم التزامهم وحرصهم كأقلية على الانغلاق على أنفسهم بتركيز شئون حياتهم داخل حارة اليهود التي لم تكن تختلف عن بقية حوارى مصر المحروسة فى الماضى.
فمجتمعنا كان منفتحا وقابلا للتنوع بمختلف أشكاله الدينية، والثقافية، والحضارية، ولم يُظهر ما يشى برفضه هذا المبدأ، بل كان يسعى جاهدا لتمتينه وترسيخ جذوره فى التربة الوطنية وبالتالى فإن اليهود قطعة من القطع المشكلة لتراث بلادنا فى الماضى والحاضر، وحينما نحافظ على حارة اليهود ولا يزعجنا ويقلقنا اسمها، وغيرها من المعابد والآثار اليهودية فإننا نصون ونحمى تراثنا الوطنى الذى يتعين الافتخار به، مثلما نعتنى بالآثار الإسلامية والمسيحية، وسنبعث برسالة قوية مفادها نحن مجتمع يعتز ويحرص على التنوع، ولا يفكر بمنطق التمييز والعنصرية الذى نرفضه ونمقته ونحاربه.
وسيفعل القائمون على وزارة الآثار بنا خيرًا إن وضعوا فى جداول ترميم آثارنا المعابد اليهودية التى تئن من وطأة الإهمال منذ زمن بعيد، وحتى تفوت الفرصة على إسرائيل التى تضغط بكل ما أوتيت من قوة ودهاء ومكر لاسترداد محتويات المعابد اليهودية المصرية بزعم أنها مهملة، وتكمل منظومة الضغط بالمطالبة بتعويضات عن أملاك اليهود المصريين الذين نزحوا من مصر فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، فهى تلعب وتستغل كل الأوراق، ويجب ألا نعطيها أسلحة مجانية تحاربنا بها، وكلنا يعلم أنها تجيد تحريف الكلم عن مواضعه وتلوى عنق الحقيقة وتقنع الآخرين بها، ونصبح نحن فى موقف الدفاع بسبب تصرفات تتسم بالرعونة والاندفاع وقصر النظر.
سنفعل ذلك ليس خوفا من إسرائيل وأباطيلها وأساليبها الملتوية غير الشريفة، وإشهارها سيف معاداة السامية، وإنما كترجمة عملية وعن قناعة من جهتنا بإيماننا الصادق بالتسامح والتعايش بين الأديان السماوية الثلاثة، وقبول الآخر مادام لا يهدم، ولا يخرب، ولا يكيد ولا يتآمر، ولا يهدد أمننا القومى. ويعنينى كثيرًا مسألة قبول الآخر، فنحن لا نكف عن الشكوى من طريقة معاملة الغرب مع الجاليات المسلمة، وأنهم يحاصرونها ويلصقون بها جرائم الإرهاب، والكراهية، وعدم قبول الآخر .. الخ، ومن ثم ليس منطقيا الوقوع فى الخطأ نفسه.
قضية التسامح غير مقتصرة على اليهود، فبعض الدعاة يفتون بعدم جواز مخالطة غير المسلمين، أو مصادقتهم، ومشاركتهم أعيادهم، وبعدها وفى تناقض صارخ يتحدثون لجلسائهم عن سماحة الإسلام، فهم يقولون ما لا يفعلون، ويشوهون ديننا الحنيف بأفعالهم غير السوية.
إن فكرنا بمعيار مقيم دعوى تغيير اسم حارة اليهود فعلينا المبادرة بتبديل أسماء مدننا وشوارعنا لكونها فرعوينة الأصل، أو قبطية، أو يونانية، أو غربية، وسنزج بأنفسنا فى متاهة ما أنزل الله بها من سلطان، وستكون سببا فى طمس جوانب مشرقة ومشرفة اتصف بها المجتمع المصري على مر العصور، ومثلت منارات اهتدى بنورها آخرون فى بقاع الأرض. وواجب الأبناء والأحفاد المحافظة على إرثنا الغالى الثمين من التسامح والتفاهم والانفتاح، فشرنقة التمييز دمرت شعوبا وأمما فى سالف الدهر، فضلا عن ضرورة عدم إهدار وقتنا وجهدنا فى قضايا فرعية غير مفيدة، ومعوقة للراغبين فى الانتقال ببلدنا لشاطئ الرقى والتحضر، وأناشد الجهات المختصة تقنين وتشديد إجراءات رفع الدعاوى بالقضاء الإدارى والعادى حتى لا تبدد الطاقات فى الغث، ويشتت الذهن فيما لا طائل من ورائه.