عزت ابراهيم
الخصــومة مع المســــتقبل
لا أظن أن أى عاقل فى هذا البلد يرى حال النقاش العام ويعتقد أن ما يحدث يضع لبنات فى مشروع واضح المعالم لمستقبل أفضل. نضحك على أنفسنا عندما نعتقد أن الانفلات فى طرح القضايا وفى إدارة النقاش حولها هو نوع من ممارسة الحرية فى التعبير بينما الحرية الحقة التى نريدها تحتاج إلى ضوابط وتقنين لم نخطو تجاهها خطوة واحدة. طريقة الحوار فى المجتمع لم تختلف كثيرا عما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير، وربما ازداد الوضع تدهورا من وراء إطلاق العنان لكل الأصوات المنفلتة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وما حدث بعد الثورة الشعبية فى 30 يونيو هو إهدار كبير للقيم التى كان يمكن أن يبنى المجتمع عليها الكثير، فالجماهير خرجت ضد الصوت الواحد والرغبة الشمولية لفصيل كانت لديه قناعة أنه يحكم بتفويض إلهي، ومن هنا استشعرت الملايين أن تصحيح المسار مسألة حياة أو نهاية وطن، ومن ثم توقع الكثيرون أن يدير المجتمع حواراته على أرضية مستوية جديدة تضع المسئوليات على قمة الأولويات، وتحدد الأطر قبل الحديث فى قضايا الشأن العام إلا أن ما جرى فى الشهور التى تلت الثورة الشعبية لم يأت على قدر الحدث الأكبر فى تاريخنا المعاصر. انشغل الكثيرون بحجم مساحات الحرية ولم يكلفوا أنفسهم عناء إدارة نقاش متوازن يشمل الجميع ويعين الدولة فى مرحلة دقيقة. نعم، يتحمل المثقفون المسئولية لأنهم لم يدركوا أهمية النضال المدنى فى مرحلة إعادة البناء بدلا من الانغماس الكامل فى أمور السياسة. والمشاركة التى كان يمكن للمؤسسات الثقافية، التابعة للدولة وفى القطاع الأهلي، أن تسهم بها هو تحديد الأطر الجديدة لثقافة مدنية تفك الاشتباك مع الماضى وتؤسس للمستقبل. ولعل ما يجرى من معارك فكرية عرف بعضها الطريق إلى المحاكم مؤخرا هو نتيجة طبيعية للفشل فى وضع أسس جديدة للمجتمع الذى حلمت الأغلبية به بعد 30 يونيو والتى لم يكن خروجها ضد جماعة متخلفة أيديولوجيا، أو تملك مشروعا استبداديا فقط، ولكن ضد نسق قائم من الجمود والتراجع الفكرى فى المجتمع بصفة عامة. لم يكن غريبا أن تظهر متناقضات فى الحياة السياسية والثقافية، وتتفاقم سلبياتها فى غياب المراجعات الضرورية فى تلك المرحلة الحرجة وهى مسئولية مؤسسات الدولة والمجتمع الثقافى معاً، فلا معنى لإلقاء عبء المسئولية فى تنظيم حركة المجتمع، الفضاء الإعلامى والصحفى تحديدا، على عاتق الدولة وحدها، بينما يصرخ البعض ضد تدخل المؤسسات الرسمية.
ردود فعل المجتمع إزاء بعض القضايا الأخيرة، منها ما له علاقة بقضايا ازدراء الأديان، وأخرى لها علاقة بحرية التعبير فى أعمال أدبية، تميل إلى عدم تصديق استمرار انغماسنا فى تلك الأمور التى تدفع إلى تغليب الصوت الواحد وفرض وصاية على الإبداع وتقليل مساحات التنوير بينما كان المفترض هو فتح كل النوافذ حتى يدخل هواء نقى صالح يطرد الأفكار الفاسدة والعقيمة. كما أن المواقف المتناقضة من حرية، الإبداع تدفع إلى التصديق بوجود تيار يدفع فى سبيل تقليل مساحات الحرية وهو على خلاف ما يقول به رئيس الدولة نفسه والذى يعى تماماً أهمية تحديث المجتمع من خلال الأفكار الخلاقة حيث أكد التوجه السابق أكثر من مرة. فى كثير من القضايا، لو وُجدت الهيئات المنظمة لوسائل الإعلام، حسب الدستور، فإن تلك المؤسسات ستكون كفيلة بمنع وصول الكثير من الشكاوى إلى القضاء وهى مسألة متعارف عليها فى دول كثيرة. ومن هنا علينا أن نهتم بالتشريع وبنود التفويض الممنوح لتلك الهيئات، ولا نعطى الأولوية لصراعات المناصب والأسماء المرشحة لعضويتها، ونترك جوهر المهمات الثقيلة الملقاة على عاتقها، فهى مؤسسات قادرة على تقليل حدة التوتر والقيام بدور أصيل فى ضبط بوصلة الأداء الإعلامى والصحفى والحد من التكلفة الباهظة التى ندفعها أمام العالم نتيجة الدخول فى معارك وهمية لا طائل من ورائها.
الشكل العام لحالة النقاش يقول إننا فى خصومة مع المستقبل، بينما فى واقع الأمر هناك قوى شابة طامحة إلى تغيير حقيقى فى الحياة العامة، وفى الوجوه التى تطل على الشاشات، وتريد محاسبة من يريدون إدارة دفة الحوار فى اتجاهات تعطل التوجه نحو المستقبل، ولو بدأنا بتنظيم حركة المجتمع من خلال الهيئات الجديدة التى ستكون مسئولة عن الصحافة والإعلام ربما نحصد شيئا نافعا فى السنوات القادمة، وتلك مسئولية عاجلة أمام نواب البرلمان الجديد.