الأهرام
أنور عبد اللطيف
برامج غرف النوم تسقط فى «دولة العصافير»
تأملت صحف الصباح وفضائيات المساء والسهرة مع نسائم العام الجديد ووجدت خليطا استفزنى وعجبت له، اختفى حديث الساعة عن البداية الصح لمواجهة تحديات المرحلة والتى تفرض علينا ان نتعامل بجدية وحكمة تليق بها وتليق بنا، اختفت أخبار المليون ونصف مليون فدان وكل مشروعات زراعة الأمل وكيف نضاعفها وماهى معايير توزيعها وكيف نستغلها لتصب فى خانة أمل جديد للناس يشكل إضافة حقيقية للاقتصاد القومى ، كما اختفت تماما أحاديث التفاعل الموضوعى مع ما يأتى من حولنا وارتفع وعلا حديث الشماتة والاستعلاء، وانشغل القضاء فى يوم واحد بأكثر من خمس قضايا من النوع الذى ينحصر هدفه بالبلدى فى «تعطيل المراكب السائرة» فهذه قضية ضد مذيع تخصص فى القاء الحجارة على من يختلفون معه وهذه مذيعة تعانى من النفسنة فحصرت فقرات بنامجها فى علاقة غرف النوم، وهذا أباح لنفسه اللعن والسب بأقذع اللفاظ ضد المتآمرين على الدولة فيرتكب جريمة أبشع فى حق قيم الدولة وأخلاقيات الإعلام ، دون مراعات حرمة البيوت وجريمة هتك الأعراض، وتتعطل فى سبيل ذلك قضايا لسنوات .. وسنوات.. رفعها يتامى وأرامل للحصول على حقوقهم ولو كانت قروشا معدودة وهكذا تضيع الدروس وتختل أولوياتنا مما يجرى ولم تسلم من التطاول دول قريبة منا وصديقة لنا، ولنا معها مصير مشترك ومصالح حيوية، مثل السعودية وسوريا واليمن وجارتنا ليبيا والسودان وحتى أثيوبيا التى ننسى احيانا أنها تغيرت وصار لها حسابات ومصالح جديدة، ولم تعد هضبتها هى الفرخة التى تبيض لنا «النيل» كل صباح، لأننا استسهلنا الكسل والنوم فى العسل فتغيرت قوتنا وقدرتنا، لا تكسبنا الاحداث طاقة جديدة ودروسا نتعلمها لتجميع شتاتنا وقوانا أولا. ثم وكيف نساعدها على الخروج من محنتها وأزمتها لتحل لغة التعاون محل صراخ الشماتة ولغة الأنانية وخطاب التعالى والاستكبار..

شعرت وكأننا فى حاجة إلى بداية جديدة لننتبه ونأخذ العبرة والدرس من دولة العصافير، نعم من دولة العصافير.. أليسوا أمم أمثالنا برؤيا العين وبالنص القرآنى«وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحين إلا أمم أمثالكم»..

ودولة العصافير صورها فيلسوفنا وكاتبنا الأعظم توفيق الحكيم فى قصة قصيرة وبديعة، فهى دولة عجيبة، تقوم على العمل والعقل وليس على الكسل والاستغلال، قيمها تمكن العصافير الصغيرة من بسط أجنحتها المحدودة على كل الدنيا، وتنشر أفرادها فى كل البقاع، لا تختفى من أرض ولا تخلو منها سماء، والسبب ببساطة أن العصافير، كلها فى عين الوقت إذا رأت عين الشمس زقزقت، وإذا خرج الصبح من جوف الليل خرجت من الأعشاش، ، ويتساءل توفيق الحكيم: من هو المنادى الخفى الذى يوقظها جميعا فى لحظة واحدة، فتهب الى العمل، فلا كسلان متخلف ولا متثائب مترف - ومن عندى: ولا لاه سهران طول الليل يحتاج إلا راحة رغم أنهم يشعرون أيضا أنهم خير مخلوقات الله لكن لا تجد بينهم شتام ولا وحاقد يفرح فى المصائب !..

والقصة تبدأ حين قال عصفور صغير لأبيه ذات يوم:

ألسنا نحن يا أبت خير المخلوقات؟

فهز الأب الكبير رأسه وقال:

هذا شرف لا ينبغى أن ندعيه وهنالك من يزعم لنفسه هذا الحق.

من هو يا أبت؟ـ فقال الاب: الإنسان!

ـ الانسان الذى يرشق أعشاشنا بالحجارة ـ ولا للحروب بينهم من نهاية ـ أهو خير منا؟

ـ ربما خير منا ولكن ليس أسعد منا!

ـ لماذا يا أبت؟

- لأن فى جوفه شوكة تحزه وتعذبه اسمها الجشع !

ـ هذا شيء لا تعرفه أيها الصغير.. انه الشىء الذى يجعله لا يشبع ولا يطمئن ولا يرتاح نحن نعرف الشبع وهو لا يعرف الا الجوع نحن لا نعرف استغلال عصفور لعصفور آخر، وهو لا يحلم إلا باستغلال أخيه الانسان، يتراخى ويتثاءب حتى الضحى فلا يرى الشمس الذهبية ولا الصبح ولا يستنشق الهواء الندى !

ونظر العصفور المجرب الى ابنه فوجده يصغى إلى كلام والده كأنه يسمع أسطورة خيالية، فقال له: لابد أن تشاهد بنفسك ذلك، ولم يمض وقت طويل حتى جاء رجل ـ ضخم الجثة عريض المنكبين ـ فقال العصفور الكبير سأوقع نفسى بيده وعليك أن تراقب!

وهبط العصفور المحنك على مقربة من الرجل فصاده الرجل فرحا وضمه بين أصابعه حرصا منه على الغنيمة ، فقال له العصفور : ماذا تريد أن تصنع بى ؟

فرد الرجل أذبحك وآكلك!

ـ أنا ضئيل لا أشبعك من جوع.. ولكن أستطيع أن أعطيك ما هو أنفع منى ومن أكلى !

ـ ماذا تعطيني؟

ـ ثلاث حكم إذا تعلمتها نلت بها خيرا كثيرا

ـ قلها

ـ سأقولها بشرط .. الحكمة الاولى اقولها وأنا فى يدك والثانية أقولها إذا اطلقتنى والثالثة أقولها وانا على الشجرة

ـ قال الرجل: قبلت .. هات الاولى،. فقال العصفور:

لا تندم على ما فاتك!

فاطلق الرجل العصفور ووقف على ربوة عالية بقربه وقال أما الحكمة الثانية: لا تصدق ما لا يمكن ان يكون!

ثم طار الى الشجرة وهو يصيح: ايها الانسان المغفل لو كنت ذبحتنى لاخرجت من جوفى درتين زنة كل منا عشرين مثقالا، فعض الرجل على شفتيه ندما وحسرة على الفرصة التى أفلتت منه ، وقال: هات الحكمة الثالثة:

فقال العصفور: لقد اعماك جشعك ايها الطماع فكيف أعطيك الثالثة، الم اقل لك لا تتحسر على مافات، ولا تصدق ما لا يمكن ان يكون، ان لحمى وعضمى لا يزن واحد مثقال فكيف احمل جوهرة وزنها عشرون مثقالا!

وكان منظر الرجل مضحكا، وهو لا يصدق .. بعد أن استطاع العصفور أن يلعب بإنسان، والتفت العصفغور الأب الى ابنه العصفور الصغير البرئ وقال: رأيت بعينيك، فقال العصفور الصغير وهو يلاحظ حركات الرجل :

نعم يا أبى لست ادرى هل أضحك منه أم أبكى عليه.

..وهكذا انتهى الدرس من دولة العصافير.!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف