التحرير
عمرو حسنى
رف مرتفع وزر إضاءة
أنا الرف المرتفع الذى لا يطاله الرجل القصير الذى يقف على أعلى مقعد لديه، ويشب على قدميه، فاردًا يديه بقدر ما يستطيع، فيبدو كغريق يحاول أن يتعلق بلوح خشبى يلمحه طافيًا فوقه على صفحة المياه. سطحى المترب يحمل أشياء لم يلمسها صاحبها منذ سنوات، ولم يعد يذكر رائحتها، وربما نسى وجود بعضها الذى يختفى عن عينه ملاصقًا للجدار. برطمان بهارات خزفى مزركش اقتنصته والدته الماكرة من جارة شامية ضريرة لم يعد يذكر اسم بلدتها الطريف الذى تدحرج وسقط منه فى قيعان الذاكرة. ملعقة فضية صغيرة مشغولة، اعتاد والده أن يقلب بها قهوته الصباحية المرة مطلقا لعناته على الزمان الذى منحه ولدًا لن يطال نعشه الذى سيحمله الغرباء. عملات برونزية كالحة من سبائك النحاس والقصدير، كانت تشترى للصغار بهجة مغلفة بأوراق مفضضة ثم صارت الآن ممنوعة من التداول. صورة تذكارية التقطها فى طفولته وهو يقف مزهوًّا بين أقزام السيرك فيبدو أطول منهم بفارق ضئيل كان يكفى لمنحه فخرًا فقده تدريجيا بالتزامن مع استطالة قامات الأصدقاء. أشياء كثيرة كان بمقدوره أن يتفحصها إذا امتلك سلما صغيرا. من بينها قلادة ذهبية على شكل قلب ينفتح كعلبة تحمل صورة لفتاة تبتسم ببلاهة لا تخطئها عين. ربما تكون حبيبته القديمة التى عشقت رجلا فارع الطول، ورحلت معه إلى بلاد يسكنها عمالقة الأساطير. الرفوف المرتفعة مثلى وظيفتها أن تحافظ على ما تحمله بعيدًا عن عبث الصغار، لكنها تفقد معناها عندما تصير بعيدة عن متناول الكبار قصار القامة، الذين يخشون امتلاك سلم يحملهم لمواجهة ذكرياتهم المقدسة.

أنا الآخر عندى حكاية مشابهة. أنا زر النور فى حجرة عجوز ضريرة لا يستخدمه سوى زوارها القلائل المبصرين. أصابعها قد تخطئ أحيانا وتضغطنى دون قصد منها عندما تتحسس الجدران متلمسة طريقها وهى تبحث عن شىء تحتاج إليه من رف قريب. وقتها يلمح جارها المستوحد الضوء فى نافذتها فيقرع بابها لكى يطمئن أن لديها زائرا ترحب بوجوده ولا تخشى منه على أشيائها المبعثرة. طرقتان متتاليتان يقول بعدهما بصوت يجعله غليظا بقدر ما يستطيع: هل تريدين أن أصنع القهوة لضيفك الكريم؟ يفعل هذا ليعطى انطباعا زائفا للزائر المجهول أن رجلا ضخما يهتم لأمرها يقف خلف بابها. ساعتها ستضحك وتشكره وربما تدعوه للدخول وفى كل الأحوال ستكبس زر النور مرة أخرى ليمنع الضوء عن شقتها الصغيرة التى ترتدى ظلمتها كنقاب يخفيها عن عيون الآخرين.

الرجل المستوحد القصير فكّر كثيرًا أن يطلب من جارته الضريرة مساعدته على الوصول إلى أشيائه التى لا يطالها على الرف البعيد. لكنه يتردد فى كل مرة رغم ثقته التامة أنها أنسب من يقوم بتلك المهمة. فهى لا تملك بصرًا يجرح ماضيه. لكنه كان يخاف شيئين. أن ترى بأناملها المدربة برطمانها القديم المزركش فترغب فى استعادته، أو أن يسقط من يدها المرتعشة الملساء شىء قابل للانكسار.

الرف المرتفع يمكن أن تطاله يد السيدة العجوز الضريرة التى يلمح الرجل القصير الضوء فى حجرتها فيطرق بابها لكى تكبس الزر وتطفئ النور الذى لا تحتاج إليه.

قصة من مجموعة قيد الكتابة ولم أمنحها عنوانا بعد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف