نصف الدنيا
نوال مصطفى
لماذا ابتعدت السينما عن الأدب؟
سؤال يلح على فى الآونة الأخيرة .لماذا ابتعد صناع السينما عن الروايات الأدبية رغم أنها كانت زادا غنيا بالموضوعات الهادفة والأفكار الإنسانية العميقة ؟ لماذا نسبح فى بحر من التفاهة والسطحية ولا نقدم أعمالا مأخوذة عن روايات أدبية كما كان يفعل مخرجونا الكبار فى الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضى .قفز هذا السؤال إلى ذهنى وأنا أشاهد واحدا من أهم أفلامنا المأخوذ عن قصة للأديب القدير يحيى حقى هو فيلم «البوسطجى».

يحكي الفيلم قصة عباس (شكري سرحان)، الشاب القادم من القاهرة لاستلام وظيفته كناظر لمكتب البريد في قرية «كوم النحل» بالصعيد، يعيش البوسطجي القاهري صراعاً حاداً بين تصوره المسبق للواقع الاجتماعي لأهالي القرية وبين اكتشافه الصادم لهذا الواقع.

ويعيش «عباس» إحساسا مريرا بالعزلة التى فرضها عليه أهالي القرية. عندما اكتشفوا وجود مجلات إباحية فى المنزل الذى يعيش فيه بالقرية. تدفعه تلك العزلة إلى كسر وحشة الوحدة والشعور بالملل ، فيلجأ إلى فتح باب آخر يطل من خلاله على الناس ويتعرف على أحلامهم وآلامهم ، وكأنه يريد أن يخلق حياة موازية تخفف من وطأة الحياة الكئيبة التى يعيشها فى «كوم النحل». يلجأ إلى وسيلة جهنمية يفتح من خلالها رسائل أهل القرية ليتسلى بحكايات من دم ولحم ،حكايات واقعية وأبطالها حقيقيون . يدفعه الفضول إلى إدمان تلك الحكايات، ومتابعة العلاقات الغرامية بين فتيات القرية وشبابها سواء المشروعة أو تلك التى تدور فى الخفاء بعيدا عن الأعين ..

تجذبه قصة حب بين فتاة من القرية (زيزي مصطفى) وبين شاب من خارجها، فيعيش من خلال الرسائل المتبادلة بينهما مسلسل «الحب الممنوع» ويعرف أن هذه الرسائل هي حلقة الوصل الرئيسية بينهما. يتعاطف معهما بشدة ويتابع بشغف وترقب تطور علاقتهما، ثم نفاجأ بمفارقة درامية محبوكة حيث يتسبب نتيجة لخطأ غير مقصود في إنقطاع خط الإتصال بينهما فى لحظة قدرية فارقة. كانت الفتاة تنتظر بخوف رهيب خطاباً من حبيبها يخبرها فيه متى سيأتى؟، وذلك بعد أن أثمرت تلك العلاقة جنيناً غير شرعي.

ينسى «عباس» توصيل الخطاب بعد قراءته المتلصصة له وفى لحظة حمقاء يحترق الخطاب دون قصد، وتتصاعد الأحداث بصورة مأساوية فيقتل الأب الصعيدى (صلاح منصور) ابنته عندما يكتشف أنها جلبت له العار بحملها غير الشرعى. وكان خطاب الحبيب يطمئن الفتاة بأنه قادم لإنقاذها وطلب يدها للزواج .

ينتهي الفيلم بلقطات قوية، معبرة، وصادمة. المشهد الأخير لعباس البوسطجي وهو يبكي ويقطع الرسائل وينثرها في الهواء، وذلك لإحساسه العميق بالذنب لوقوع تلك الفاجعة.

الفيلم مأخوذ عن قصة للأديب يحيى حقي بعنوان «دماء وطين»، كتب السيناريو الأديب القدير صبرى موسى الذى استطاع أن يحولها إلى عمل سينمائي متماسك، يتمتع بكل مقومات الفيلم الناجح ،المدروس، الذى يمكنه أن يعيش طويلاً رغم اختلاف الظروف وظهور التكنولوجيا الحديثة بكل أنواعها وعلى رأسها الإنترنت .

قد يقول أحدكم أن فكرة الفيلم لم تعد تصلح لهذا الزمان بعد اختراع الإيميل والشات على الفيسبوك والواتس آب وغيرهما الذين حلوا محل الخطابات أيام زمان فهذا الفيلم تم إنتاجه عام 1968 واليوم اختلفت الحياة بعد 46 عاما على انتاجه. وينسى هذا القائل أن القرية المصرية لا تزال تغرق فى الأمية الأبجدية خاصة بين النساء، فما بالنا بالأمية الإلكترونية !.

الفيلم فى رأيى يحمل فكرة عميقة تعرى الواقع الأليم الذى تعانيه المرأة التى تعيش قهر الفقر والتخلف خاصة فى صعيد مصر، تلك الظروف التى تجعلها تدفع وحدها ضريبة حبها الممنوع فى مجتمع يقصيها ويعاملها بدونية لا إنسانية لا تنتمى لدين أو أخلاق .كذلك يجسد الخط الدرامى فى الفيلم مفارقات القدر التى تغير المصائر وتقلب حياة البشر رأسا على عقب فى لحظة فارقة.

لقد حقق المخرج القدير حسين كمال نقلة كبيرة فى مشواره الفنى بإخراجه لهذا الفيلم الذى صنف كواحد من أهم مائة فيلم فى السينما المصرية، واعترف بنفسه أنه كان بداية مرحلة مهمة وفارقة فى حياته .

فرغم بساطة الفكرة يتجلى الصدق وتكتسح الواقعية قلاع الخيال بل تتجاوزه، ورغم رحيل جميع صناع هذا العمل الغنى فكريا وإبداعيا يعيش الفيلم متحديا الزمن، قادرا على طرح الأسئلة الوجودية فى أذهاننا جميعا شأن كل الأعمال الفنية العظيمة التى ولدت لتبقى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف