صباح الخير
رشدى أبو الحسن
في الذكري المئوية لمولده: صلاح أبو سيف الذي يعشق مهنته
الاحتفال الذى أقامته وزارة الثقافة، بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد المخرج الكبير «صلاح أبوسيف»، كان احتفاء بالفضائل والسجايا، التى تزين سلوك المرء، وتطبع تعاملاته مع الآخرين، زملاء وتلاميذ، صغاراً وكباراً، وتظلل إنجازه بمشاعر الإعزاز والإحلال.

وبرغم أنه مات منذ تسعة عشر عاماً - عام 96 - عن واحد وثمانين عاماً، وهى مدة تكفى أحياناً لإسدال ستار من النسيان، عن كثير من الذين يفنيهم الموت، فإن ذكريات طيبة مفعمة بالامتنان، لم تغب عن ذاكرة الذين عرفوه أو عملوا معه.
والمتحدثون الذين رووا ذكرياتهم وشهادتهم عنه، فى الاحتفال الذى بدأ أسرياً عاطفياً، لم يكونوا من أبناء جيله، واقترب معظمهم من دائرته، فى أخريات عمره، بعد أن أصبح نجماً ساطعاً، وقطباً رفيع المقام.
لم تقل المطربة الفنانة أنوشكا، أكثر من أنها كانت فى بداية مشوارها الفنى، تدق على باب الفن، حين اتصل بها زميل لها - ذكرت اسمه ولم أسمعه جيداً - قائلاً لها: إن الأستاذ صلاح أبوسيف يريد الالتقاء بها.
وتصورت الفنانة - المبتدئة آنذاك - أن الزميل يمزح معها، فأجابته: أنا فى انتظاره غداً فى مكتبى الساعة السادسة مساءً.
وانتهت المكالمة ونسيت المزحة
وحين دق الجرس فى اليوم التالى، فى السادسة تماماً، وجدت أمامها الأستاذ صلاح أبوسيف.
ولا بد أنه ارتج عليها.
وفهم كلاهما الموقف ودخل هو فى الموضوع الذى جاء من أجله، عارضاً عليها أن تشترك معهم فى فيلم السيد كاف - وهو آخر أفلامه سنة 1994، إذ مات بعده بعامين - وشرح لها طبيعة الدور الذى يراه مناسباً لها.
دعك من أثر هذه التجربة على مستقبلها وتطورها كما شرحته للحاضرين.
• التواضع والسلطة
ولنتأمل موقف صلاح أبوسيف، الذى وصفته الفنانة بالتواضع والبساطة التى أسرتها.
ويبدو لى، أنه شىء أهم من مجرد التواضع والبساطة.
ولو أضفنا إلى هذا الموقف، مواقف أخرى رواها آخرون، سنرى أن هذا السلوك يصدر عنه بتلقائية ودون تكلف، يمتزج فيه التواضع باحترام عميق للآخرين، وتقدير صاف للموهبة، وقبل هذا وبعده حب للعمل الذى يقوم به، يصل إلى درجة العبادة، وعشق للمهنة، لا تحول أى شكليات دون أن ينجز المهمة التى بين يديه، على أكمل وجه.
فأنا أرى أنه ذهب لأنوشكا، لأنه لا يريد أن يضيع وقتاً، فتركيزه على ما سوف تقوم به أنوشكا فى الفيلم، ويضفى عليه رواء.
وسلوكه مع أنوشكا فى آخر عمره، يرافقه طوال حياته، فالكاتب الكبير لينين الرملى يقدم منذ أسابيع شهادة مهمة، فى واحد من المقالات ذات القيمة التى يكتبها أسبوعياً فى صحيفة البوابة عن معاناته مع الرقابة سأنقل منها الفقرة التى تتعلق بموضوعنا «كنت سعيداً بثقة الأستاذ أبوسيف رغم أنى تخرجت منذ شهور من معهد الفنون المسرحية، وقد اختارنى وقد شاهد لى تمثيليتين بالتليفزيون، لأشاركه كتابة السيناريو، ثم أكتب حواره، كان عمره ضعف عمرى، لكنه غاية التواضع والدمائة كانت الجلسات تتم فى منزلى يناقشنى بهدوء وصبر حول الموضوع الذى يعالج المفاهيم الخاطئة حول الجنس وتسبب التعاسة للأزواج والزوجات».
وشهادة الفنانة الكبيرة سميحة أيوب تضيف سمة أخرى يحسن أن نتأملها:
فقد عملت معه فى فيلم فجر الإسلام - 1971 - وتذكر أنها بينما كانت تقوم بأحد المشاهد لمحت المخرج الكبير يذهب إلى إحدى العاملات ويتحدث إليها بما يشبه التأنيب، ويطلب منها مغادرة المكان ويعود إلى الممثلة الكبيرة سائلاً: هل تحب إعادة المشهد، فترد بقوة بالإيجاب وحين سألته بعد ذلك كيف أحس بقلقها وقد كان على مبعدة منها، وأجابها «فى موقع العمل أحرص على أن أرى كل شىء، ولو وراء ظهرى، رأيت القلق فى «نن» عينيك» ونظرت إلى الناحية المقابلة فوجدت الفتاة تتحدث وتشير بيديها، بطريقة تشتت تركيزك وأنت عن بعد».
طبيعى ألا تنسى الممثلة القديرة هذه الواقعة رغم مرور ما يقرب من خمسة وأربعين عاماً.
وأكتفى باقتطاف هاتين اللمحتين من كم هائل ورائع جاء على ألسنة المتحديثتين الأفاضل: سميحة أيوب وجمال سلامة وهاشم النحاس وأنوشكا وأشرف غريب وأشرف فايق وعلى سعد وأمل الصبان وأشرف هيكل.
بالإضافة إلى شهادات أخرى فى الكتاب الذى أصدره المجلس الأعلى للثقافة، على ألسنة سمير فريد وكمال رمزى وطارق الشناوى ومحفوظ عبدالرحمن ويوسف القعيد وسيد حجاب وفاروق صبرى.
• نغمات على شاطئ الواقعية
وهو كتاب «نغمات على شاطئ الواقعية» بقلم الدكتورة رانيا يحيى المدرس بقسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون.
وهذا الكتاب بذاته احتفال آخر كبير وأنيق بالمخرج الكبير.
يضاف إلى قائمة من الكتب، صدرت عن عمله وموقفه فى السينما المصرية، عبر السنوات.
وقصرته المؤلفة على جانب واحد هو الموسيقى فى أفلام أبوسيف، أشارت فيه إلى علاقته بالموسيقى دراسة وعزفا وتذوقاً منذ صباه، ثم حللت بالتفصيل موسيقى سبعة عشر من أهم أفلامه.
وليس هناك أحد أجدر من هذه الشابة الجادة، بتأليف مثل هذا الكتاب، وهى الدارسة للموسيقى، والعلاقة بأوركسترا الأوبرا، والمحبة للسينما، والأكاديمية المتخصصة فى فلسلفة الفن.
ولا أزعم أننى قرأت كل فصول الكتاب، فأكذب إن قلت لكم إننى ألم بشىء قليل أو كثير من هذا الفن العظيم، رغم أن المؤلفة حرصت على أن تكتب وهى تحدوها رغبة فى الوصول إلى القارئ غير المتخصص.
وحرصت على أن أكتفى بقراءة فصل واحد - لمجرد العلم بإمعان وتركيز الفصل الخاص بفيلم شباب امرأة لأن وقائعه فى ذهنى وأحسست بالجهد الذى بذلته المؤلفة، منذ بداية الفيلم، حيث لفتت نظرنا كيف أنه يبدأ منذ الثانية الأولى بالآلات النحاسية، كأنها نداء ترد عليه الآلات الوترية، ثم أمسكت بيدنا خطوة خطوة مع كل مشهد حتى آخر الفيلم.
ومن حسنات الكتاب أنه أوضح قيمة ودور فنانين عديدين، أبرزهم فؤاد الظاهرى، الذى ترك بصمة باقية فى تطوير الموسيقى التصويرية للأفلام، حيث أسهم فى إبداع موسيقى 350 فيلماً، ومن أكثر الذين تعامل معهم المخرج الرائد.
وحين نذكر هؤلاء ونحتفى بإنجازهم فعلى أمل أن نستأنف جهودهم بنفس الجدية والاهتمام والعشق والحس بالمسئولية.•
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف