د.محمد مختار جمعه
السرقات العلمية وأثرها فى تخلف الدول
إذًا لكل فعل ردّ فعل مساوٍ له فى النسبة ومعاكس له فى الاتجاه، فإن تشجيع البحث العلمى والإبداع والابتكار والانطلاق
الجاد نحو المستقبل يقتضى وبسرعة وقوة وحسم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهة السرقات العلمية وما فى حكمها، وبخاصة فى مجال الرسائل الأكاديمية والبحوث العلمية، بحيث يكون هناك عقاب رادع لكل لص أو سارق لنتاج غيره الفكري، واعتبار ذلك أحد الجرائم المخلة بالشرف التى تحول بين صاحبها وتولى أى عمل قيادى يحتاج إلى الأمانة والنزاهة والتحلى بالشرف ومكارم الأخلاق .على أن التدرب على الأمانة العلمية يجب أن يبدأ فى مرحلة مبكرة تنطلق مع السنوات الأولى من التعليم الأساسى مصاحبة له حتى نهايته، ممتدة لجميع المراحل التعليمية .
وإذا نظرنا إلى واقعنا وأدركنا أن بعض الجهات التى تمنح دراسات مكملة كالتأهيل التربوى وبعض الدراسات التكميلية مثلاً، إضافة إلى معظم الشهادات الفنية والمتوسطة ربما تتسامح فى نظم الامتحانات بما لا يتناسب وطبيعة التأهيل المطلوب فإن ذلك يدعونا لمزيد من المراجعة لنظم التقويم والمراقبة.
وإذا اعترفنا بأن بعض خريجى الدبلومات الفنية قد لا يجيدون القراءة والكتابة إجادة تتناسب والسنوات التى درسوها أدركنا أننا فى حاجة إلى تغيير مسارنا الثقافى فيما يتصل بنظم التقويم والامتحانات، مؤكدين أن ضبط المنظومة العلمية والتعليمية والبحثية وبخاصة فيما يتصل بالامتحانات ووسائل التقويم إنما هو أمانة، وأن التجاوز فيها خيانة للأمانة، وإعطاء ممن لا يملك لمن لا يستحق، مما يسهم فى تخريج أشخاص غير مؤهلين، حاملى شهادات لا تعبر عن واقعهم التعليمي، ولا تؤهلهم لسوق العمل، وتفقد الجهات المانحة لهذه الشهادات قيمتها ومكانتها وتصنيفها داخليًا وخارجيًا، بل تفقد المتعلم نفسه الإحساس بقيمة الشهادة التى حصل عليها ، وبقيمته الذاتية أيضًا، مع عدم قدرته على التعايش مع الواقع العملى.
وإذا كان الغش مذمومًا على كل حال، حيث يقول نبينا: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وفى رواية: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا بحذف المفعول للتأكيد على حرمة كل ألوان الغش، فإن الغش فى المجال العلمى والفكرى أشد جرمًا وأكثر تحريمًا وإخلالا بالمروءة والشرف.
على أن هناك لونًا خطيرًا من ألوان الغش قد لا يلتفت إليه بعض الناس وهو ما يمكن أن نطلق عليه التسول البحثي، بأن يطلب أحد الناس من بعض زملائه أو أصدقائه أو حتى تلاميذه كتابة اسمه معهم على عمل لم يشترك فيه ولم يقم فيه بجهد، مما يجعلنى أطالب بضرورة مناقشة الباحث فى أبحاثه المقدمة مناقشة شفوية حتى نتأكد من استيعابه لها وقدرته على فهمها والتعامل معها .
لذا يجب على كل الجهات ذات الصلة بالمجال الفكرى والعلمى وضع النظم التى تحول دون السرقة التعليمية، أو تمكين غير المؤهلين من الحصول على ما لا يستحقون، كما يجب إنفاذ القانون بحسم على كل من تسول له نفسه الإخلال بمنظومة القيم التربوية أو الجامعية، وأن يكون هناك تقويم مستمر للمعلمين وغيرهم، على أن يكون تقويمًا جادًّا غير شكلى بحيث يشعر المجد بثمرة اجتهاده، أما غير المجد فإما أن يعمل على تنمية معارفه وتحسين مستواه ورفع كفاءته وإما أن يوضع فى العمل الذى يناسب قدراته، على أن يكون ذلك كله بمنتهى الحياد والإنصاف والشفافية دون مجاملة أو إجحاف.
وإذا كنا نؤمن بقيمة العلم وأنه الطريق الوحيد للعبور بنا إلى بر الأمان فإن هذا الطريق ينبغى أن يكون جادًّا، وأن نعطيه حقه من الجد والاجتهاد، والسهر والدأب والتعب، وأن نحتضن النوابغ والأكفاء والمجتهدين ونوفر لهم المناخ المناسب، ونجعل منهم القدوة والمثل، وأن تنشئ كل مؤسسة تعليمية أو بحثية وحدة أو إدارة لمواجهة السرقات العلمية، حتى ننطلق بقوة نحو عالم العلم والمعرفة، لننهض بوطننا وأمتنا فى عالم صار قوامه الرئيس التقدم العلمى والتكنولوجى وغزو الفضاء، حتى صارت حروبه فى جانب كبير منها حروبًا فكرية ومعرفية وتكنولوجية لا يمكن الانتصار فيها إلا لمن يملك أدواتها امتلاكًا قويًا وواعيًا .
مؤكدين أن الإسلام عندما أعلى من قيمة العلم وشأنه، فقال سبحانه: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ، وقال نبينا: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، فإن ذلك يشمل كل علم سواء أكان علمًا شرعيًا أم علمًا تطبيقيًا، فعندما قال صلى الله عليه وسلم:» مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا» جاء لفظ «علمًا» نكرة ليفيد العموم والشمول، على أن المقصود هنا هو ناتج عملية التعلم، والعالم الحقيقي، وطالب العلم المُجد المجتهد، لا من يحصلون على الشهادات المزيفة المضروبة أو الناشئة عن غش وتدليس وفقد الأمانة والمروءة والشرف.