التحرير
أحمد عبد التواب
أحكام قضائية تؤسس لما هو أفضل..
لماذا توارى كثير من أصحاب الأصوات الزاعقة وانخفضت عقيرتُهم عن مجرد التعليق على حكمين قضائيين على أعلى درجة من الأهمية صدرا الأسبوع الماضى وجاءا متطابقين مع ما ينادون به؟

الإجابة، وقبل الدخول فى التفاصيل، أنه قد صار لدينا فئة، ممن يتصورون أنهم يمارسون العمل السياسى على أفضل ما يكون النقاء والالتزام، يصرون، فى تبسيط لأمور هى معقدة بطبيعتها، على إلقاء مسؤولية كل شيئ على عاتق الرئيس السيسى. وليكن الكلام فى هذا السياق مقصوراً على القضاء وأحكامه، فهم يعتبرون السيسى مسؤولاً عن كل حكم لا يرضون عنه، وهم، وفى نفس الوقت، ودون أى إحساس بالتناقض، ينادون باستقلال القضاء، ويشجبون أى تدخل فى سير العدالة وأى انتهاك لاستقلال القضاء!

لا يريدون، عملياً، الإقرار بأن القاضى لا يملك إلا أن يُطبِّق القانون الذى يصدر من جهة التشريع، وبأن الإصلاح يكون على يد البرلمان الذى يصدر هذه التشريعات التى لا يرضون عنها، أى أنه يلزم أن يكون البرلمان ملتزماً بما ينادون به. ولكنهم يقاطعون الانتخابات البرلمانية ويدعون الناخبين إلى عدم المشاركة فيها، بما يترتب عليه أن يفوز بالعضوية من لا يمثلهم، بل أحياناً يفوز من يناهضهم فى الأفكار والمواقف.

ومن الطبيعى أن يعمل الفائزون على تحقيق رؤاهم هم، التى تؤدى، ضمن ما تؤدى، إلى تشريعات ملزمة للقضاء، فتصدر الأحكام التى تدخلنا فى هذه الدائرة المفرغة العبثية من الاستنزاف فى المجادلة حول البديهيات!

كان الحكم الأول ببراءة الأديب أحمد ناجى، ورئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب، من تهم خدش الحياء العام ونشر الفجور والرذيلة. ورفَضَ الحكمُ الوقوفَ على عبارات بعينها فى الرواية بعد اجتزائها من سياقها، وأقرّ بأن العمل الأدبى كيان واحد إذا اقتُطِع منه جزء انهار ذلك العمل.

بل وانطلق الحكم إلى أفق أكثر رحابة يصون حرية التعبير بأكثر مما يتشدق بها كثيرون، عندما جاء فى الحيثيات بالنص أنه من المقرر.. "أن حرية التعبير وتفاعل الآراء التى تتولد عنها لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التى تتوخى قمعها، بل ليكن للمواطن الحرية فى أن يتنقل بينها يأخذ منها ما يأخذ ويلفظ منها ما يلفظ، دون أن يوضع له إطار أو قالب يحدّ من تكوين أفكاره ومعتقداته. كما أن طرح الأفكار والمعتقدات علانية يجعلها مجالاً للبحث والتقييم من جانب المختصين، بل والمجتمع أجمع فيأخذ منها الصالح ويطرح منها الطالح.."

وتتجلى بعض الجوانب الإيجابية لهذا الحكم فى أنه جاء بعد أن قالت النيابة إن الاتهام ثابت على المتهمين، وإنه كافٍ لتقديمهما إلى المحاكمة الجنائية بسبب ما قام به أحمد ناجى ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجر عقله وقلمة لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحُسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء.

وأما التعجب من التناقض الواضح بين كيف تصل النيابة إلى هذا الحد فى تغليظ اتهام عمل أدبى، ثم يأتى الحكم بهذا الجلاء تأييداً لاطلاق حرية الإبداع! فهذا هو بيت القصيد: حيث لدينا تراث تشريعى متراكم عبر عقود فرضت فيه سطوتها قوى الرجعية المعادية للفنون والآداب والداعمة للاستبداد والقهر ووضعت القوانين المانعة للإبداع والتى تفرض عقوبات على من يخرج عن خطها. ومن ناحية أخرى، كان أنصار الإبداع يتمكنون أحياناً من تمرير بعض النصوص التى تحمى المبدعين وإبداعهم، أضفْ إلى هذا الاتفاقيات الدولية واجبة الاتباع منذ أن صدّقت عليها مصر والتى تدعم مواقف أنصار الحريات!

هذه التناقضات الهائلة هى الموجودة حالياً، متجاورة إلى جانب بعضها البعض، وهى التى يعتمد أعداء الحريات على بعضها، ويحارب ببعضها الآخر أنصار الفن والأدب وحرية التعبير.

وهذه واحدة من أهم المسؤوليات الملقاة على البرلمان الجديد، الذى نجح الناخبون فى إسقاط ممثلى التيارات الدينية المتشددة عن عضويته، الذين كانوا دائماً يناصبون الفن والأدب العداء الصريح. بما يعنى وجوب أن يلتزم النواب الفائزون بالإرادة الشعبية، وهو ما يجب أن يتجلى فى مراجعات جذرية للتراث التشريعى المعادى للإبداع، وإقرار التشريعات التى تطلق هذه الحريات وتصونها وتحمى من يمارسها، وفق أفضل القواعد المعمول بها فى العالم الحر، وحتى لا يكون الحكم القضائى المشار إليه استثناء بل قاعدة تلتزم بها النيابة العامة قبل اللجوء لساحة القضاء.

وأما الحكم الثانى الذى كان ينبغى الترويج له على أوسع نطاق، فهو الذى وافقت فيه محكمة استئناف على طلب الدفاع برد القاضى الذى كان ينظر نزاعاً بعد أن أعلن فى بعض وسائل الإعلام عن انحيازه لرأى يؤدى الأخذ به إلى أضرار على أحد طرفى النزاع. وقالت المحكمة إن القاضى بما أفصح عنه قد فَقَد الحيدة، وإن مبدأ حياد القاضى قاعدة أصولية قوامها وجوب اطمئنان المتقاضى إلى قاضيه الطبيعى، وإلى أن قضاءه لا يصدر إلا عن الحق وحده دون تحيز أو هوى، وأكدت المحكمة حق أى متهم فى رد القاضى عن نظر نزاع بعينه كحق من الحقوق الأساسية التى ترتبط بالعدالة.

كل هذا يُبيِّن أن المسألة أعقد مما يدركه أصحاب الأصوات الزاعقة. فلو كان السيسى مسؤولاً عن الأحكام التى لا ترضيهم، فينبغى شكره على مثل هذه الأحكام المذكورة. ولكن الواقع يقول إنه برئ من اللوم كما أنه لا يستحق الشكر، لأن تحقيق حلم العدالة الناجزة، بما فيها من سرعة التقاضى، هى موضوع أكثر تعقيداً مما يطرحونه، تتعدد فيه المسؤوليات والمسؤولين، وما قد يظن البعض أن نقطة بدايته من مجلس النواب، يظنها آخرون قبل ذلك، عند تشكيل مجلس النواب، ويقول الواقع بل هى قبل هذا وذاك، فى الثقافة السائدة التى تضع مبادئ اختيار أعضاء مجلس النواب، وهى، كما ترى، مسؤولية كبرى يُساءَل عنها الجميع، ولا يُستثنى عن المساءلة أصحاب الأصوات الزاعقة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف