كلٌ يبحث عن ليلاه فى العمل الفنى رسماً كان، أم كتابة، أم شعراً، أم غير ذلك، المبدع والمتلقى الناقد أو الجمهور ومنتج العمل أو تاجر (مقاول) العمل، نعم تاجر العمل أو المقاول أو السمسار، لهم أسماء أرق فى الأوساط الفنية، ولكن هذه هى المعانى والأسماء الحقيقية لتلك الأسماء الأخرى المدعاة كالموزع والناشر والقوميسير.
كل من هذه الأطراف يود لو ماتت -مجازياً- الأطراف الأخرى فى اللحظة المناسبة، التى يفضلها ليهيمن وحده، ويفرض شروطه، وينفرد بالغنيمة وعوائدها كاملة، أى العمل الفنى.
فالنقاد و«بعض جمهور» يريدون، بل أعلنوا موت المؤلف، لكى يفسروا ويؤولوا العمل كما يشاءون، ويقولون إن لا علاقة للمبدع بالعمل نهائياً بعدما خرج إليهم، والمبدع يريد أن يموت هؤلاء النقاد وكل من ينقد عمله بسوء، لكى ينفرد بالجمهور، وتجار الفن يريدون تنفيذ شروطهم التجارية فى العمل، ويا حبذا لو اختفى المبدع مباشرة بعد تسليمه العمل لهم، حتى لا يرى نجاحه، فيطلب المزيد من الأجر فى الأعمال التالية، أو لكيلا يرى كم نسخة بيعت من كتبه، أو أن الطبعة الأولى نفدت، وانتهى التعاقد ويلزم تعاقداً جديداً.
والجميع يسعى لفرض ذوقه وحكر السوق عليه.
العمل الفنى أو الأدبى هو عمل تجارى فى حقيقة الأمر، مثله كسائر الأعمال التجارية الأخرى، وهو يخضع لمجموعة من الشروط المحددة والقوانين مثلها، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون أنه تلقائى وحر ووليد الهوى والإلهام، فإنه عمل مخطط ومقصود والروائى «تولستوى» كان يقول إن النص الذى يكتبه يعتمد على تصوراته القبلية للقارئ، الذى يكتب له!
هذا مؤلف يبحث عن زبائنه ويرضيهم ويعرف أذواقهم قبل أن ينتج سلعته، إنه مُنتَج مُصَّنع بالقصد والتخطيط من جانب الفنان وقد يشاركه التاجر، ولو أن المبدعين تعاملوا على أساس أن ما يصنعونه عمل تجارى وليس وحياً يهبط من السماء ما صاروا نهباً وضاعت حقوقهم المالية كما تضيع، لكنهم يدفعون ثمن الادعاء بأنه إلهام سماوى مجانى.
القصد والتنظيم فى الفن يلتزم شروط السوق وذوق الزبائن وروح الثقافة السائد. لا يمكن أن تُصنع سلعة بالذوق القديم، ولا بذوق مجتمع آخر، وقال نجيب محفوظ إن فن الرواية يتغير كالموضة، وإذا قفز ذوق العمل الفنى وإبداعه درجات ومسافات واسعة عما عليه مجتمعه، فقد يضطر للانتظار حتى تمتلئ تلك الفجوة بين المبدع والمتلقين، كما حدث فى بعض أفلام ورسم وشعر.
هل يمكنك أن تصنع ملابس مكشوفة برسوم موحية وبألوان زاهية متعددة وتبيعها فى مجتمع مغلق أحادى يرتدى السواد فى عقله وعلى جسده؟
وعلى عكس ما تتمنى أطراف العمل الخلاص من بعضها، فإنها لا تستطيع ذلك مما يؤكد أن العلاقة مالية واجتماعية والعمل مشترك وليس فردياً، وأنهم جميعاً يعيشون فى مجتمع يتلقون منه موضوع وشكل وسؤال العمل، ثم يدفع المجتمع لهم جميعاً ثمن العمل الجميل الذى أنجزوه شأنهم شأن كل منتج وعامل فيه، ولكن يميز عملهم عن غيره أنه ينفع ويمتع ملايين، ثم إنهم بثقافتهم وعلمهم الذى يسبق مجتمعهم يقودونه لخطوات نحو تطور وتقدم فكرى وأخلاقى وإنسانى وفنى وعلى المجتمع دعم حرياتهم وتشجيعهم.
فى السنوات المقبلة سيتغير ويتبدل الذوق المحلى، ويقترب أكثر من ذوق عام عالمى، ما تؤكده وقائع حالية وبالتالى ستضمر الاختلافات والثقافات المحلية فى المجتمعات، وهذا بفضل ثورة الاتصالات والمبدعين، الذين يصلون مجتمعهم بثقافة وفن العالم عن طريق مزجها بثقافتهم وفنهم.
هل يمكن للمحصورين أو الخائفين إبداع شىء أو التعبير عن شىء أو حتى نقد شىء مما يتلقونه، فيحدث لهم ما حدث لإسلام بحيرى ويتطورون للماضى، ويسجنون؟!