الصباح
سليمان جودة
النيل الذى لا نعرفه!
ما الذى نتج عن غرق 15 مواطنًا كانوا على ظهر معدية تعبر بهم النيل فى كفر الشيخ؟!
لا شىء.. وإذا شئنا الدقة، فإن النتيجة كانت عشرة آلاف جنيه للمتوفى، وخمسة آلاف للمُصاب، من وزارة التضامن الاجتماعى، وربما قرر المحافظ صرف مبالغ مماثلة.. ثم ماذا بعد؟!
لا شىء أيضًا.. فليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التى يفقد فيها مواطنون حياتهم، بهذا الثمن الرخيص!
إننا لا نزال نذكر، أن 30 مواطنًا كانوا قد فقدوا حياتهم، بالطريقة نفسها، فى آخر أيام حكومة المهندس إبراهيم محلب، ونذكر أن التعويضات من الوزارة، أو من المحافظة، كانت بالكيفية نفسها كذلك، ثم نذكر أن ما قيل فى ذلك الوقت، عن أسباب غرق المعدية التى غرقت عند إمبابة، هو ذاته ما قيل، وبالحرف عن غرق معدية كفر الشيخ.. ففى كل مرة، نكتشف مع الأجهزة المعنية، أن المركب الغارق بلا ترخيص، أو أنه كان مرخصًا ثم انتهت رخصته، ولم يجددها صاحبه، وهو لم يجددها لأنه يعرف جيدًا، أن أحدًا لن يسأله، أو يسائِّله، إذا راح يجوب النهر بالمركب غير المرخص، لا لشىء، إلا لأن حياة الناس فى بلدنا بلا ثمن، وإذا كان لها ثمن، فهو عشرة آلاف للذى يفقد حياته غرقًا، أو حتى فى حادث طريق، ثم نصف المبلغ للمصاب.. وعندما يكون ثمن الإنسان المصاب، نصف ثمن الإنسان الذى مات غريقًا، أو غير غريق، فليس لهذا معنى، سوى أن الجثة عندنا أغلى ثمنًا من المواطن الحى!
فى كل مرة تتبرأ وزارة النقل، من المسئولية عن أى حادث غرق، وتبادر إلى الإعلان عن إخلاء مسئوليتها، وتقول بأن شرطة المسطحات هى تقريبًا المسئولة، وفى كل مرة لا تفوّت شرطة المسطحات الفرصة، وتعلن أنها قامت بواجبها، وأن كذا، وكذا، الذى لا يقع فى نطاق مسئوليتها، هو السبب!
ما معنى هذا كله، لعاشر مرة، أو ربما المرة المائة؟!.. معناه أن كل ما تفعله الدولة، مع كل حادث جديد، أنها تصرف التعويضات، وأن هذا هو كل ما تستطيعه، وأنها تستطيع بالطبع أن تفعل ما هو أكثر من هذا بكثير، إذا ما توافرت عندها الإرادة!.. ولكن.. لأن الإرادة التى هى أساس كل فعل منجز، لا وجود لها، فإن مواطنينا الذين هم بلا ثمن، يصبحون هم الضحايا، وتتفرق دماؤهم بين الأجهزة المعنية، وبين الوزارات المختصة، وبين.. وبين.. إلى أن نستيقظ على حادث جديد!
لم يحدث أن فكر مسئول فى الدولة، مع تكرار حوادث الغرق فى النيل، فى أن تكون جهة واحدة هى المسئولة عن شاطئيه، وعما يقع بين شاطئيه، من أقصى نقطة فى الجنوب، إلى نقطة التقائه مع البحر المتوسط فى الشمال.. لم يحدث أن فكر مسئول فى هذا، مع أن هذا هو الحل، لأننا، عندئذ، سوف نكون أمام جهة واحدة، ولتكن هذه الجهة فى صورة مجلس أعلى، يصبح هو المسئول مسئولية كاملة عن كامل النهر، فلا ينازعه فى مسئوليته شخص آخر، أيًا كان هذا الشخص، ولا تنازعه فيها جهة، أيًا كانت هذه الجهة.
جهة واحدة يأتى الكلام عنها، ويذهب إليها، فى كل شأن يخص النيل.. جهة واحدة تكون مسئولة عن كل قطرة ماء فيه.. جهة تكون مسئولة وحدها عن النهر الذى هو أساس الحياة فى هذا البلد.. جهة تعرف وتدرك قيمته، ثم تتصرف على هدى من هذا الإدراك!
إن الطريقة التى نتعامل بها مع هذا النهر العظيم، لا تدل أبدًا على أننا نستوعب معناه فى حياتنا، ولا تدل بأى حال، على أننا نفهم معنى أن يكون عندنا نهر مثله، ومعنى أن يجرى ماؤه ألف كيلو متر، من أسوان إلى الإسكندرية.. إن كل ما نردده، دون وعى، أن مصر هبة النيل.. أما أن نسأل أنفسنا كيف أن بلدنا هو هبة النيل، وكيف أن علينا أن نضع النيل، باعتباره مصدر هذه الهبة، فى أعيننا، وفوق رءوسنا، فإن هذا لا وجود له، ولا أثر!
النيل فى حاجة إلى ناس يحيطون بقيمته الحقيقية، ويتلقون كل قطرة من الماء فيه، كما يتلقى أى شخص أغلى شىء فى حياته، وساعتها، سوف ترى نهرًا آخر، وسوف تسمع عن النيل، ما لا تسمعه عنه الآن!
صحيح أن النهر العظيم يجرى على أرضنا، وصحيح أنه يسقى زرعنا، وصحيح أننا نشرب منه، ولكننا رغم هذا كله لا نعرفه، ولو عرفناه، ما كان هذا حاله، ولا كان هذا هو حالنا.. نحن فى حاجة لأن نتعرف على النيل، وكأننا نراه لأول مرة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف