جمال عبد الجواد
أين تقف مصر من الصراع السعودى الإيرانى؟
احتدام الصراع السعودى الإيرانى له عواقبه الوخيمة التى سنرى آثارها فى المشرق العربى الملتهب. مصر ليست بعيدة عن صراعات المشرق العربى مهما حاولت النأى بنفسها عنها. الضغوط والإغراءات التى تتعرض لها مصر لتقف بكامل ثقلها فى صف الحليف السعودى ستتزايد فى الفترة المقبلة. الدعم السياسى والمعنوى المصرى للسعودية وحلفائها الخليجيين فى الصراع مع إيران قد لا يكون كافياً فى الفترة المقبلة. لمصر مصالح استراتيجية وأمنية واقتصادية حيوية مع السعودية والخليج، وحاجة مصر للدعم السعودى والخليجى مؤكدة. الحفاظ على مصالح مصر فى الخليج قد يستلزم من القاهرة توسيع الدعم السياسى والمعنوى ليشمل أيضاً التزاماً ودعماً ودوراً عسكرياً، وفى هذا مخاطرة كبرى. الموازنة بين حماية المصالح وتجنب المخاطر فى ظروف يتأجج فيها الصراع الإقليمى لن تكون أمراً سهلاً، وتجنب القرارات الصعبة لن يكون ممكناً.
إيران هى وريثة الإمبراطورية الفارسية العظيمة، وكما هو الحال فى أغلب الدول المعاصرة من ورثة الإمبراطوريات التاريخية الكبرى، تنطوى الثقافة السياسية الإيرانية على المزيج المتناقض الذى يجمع عقدة الاضطهاد ومركب العظمة. «نحن حضارة عظيمة وقوة هائلة كامنة تآمر الأعداء لاضطهادها وكسر شوكتها لحرماننا من مكانة نستحقها»، هذا هو الاعتقاد الذى تجد تجلياته العديدة فى المركّب الثقافى النفسى الإيرانى، وهى المشاعر التى تتحول إلى خطر داهم على الجيران عندما تتوفر الظروف للانقضاض والتوسع. عندما تسيطر عقدة الاضطهاد وجنون العظمة على صناع السياسة فى أمة من الأمم فإنهم ينظرون بتعالٍ واحتقار للدول الطبيعية العادية المحيطة بهم، ولا يرضون لأنفسهم سوى بمكانة غير عادية مهيمنة ومسيطرة فى محيطهم الإقليمى، وهذه هى الحالة الإيرانية التى بات مفروضاً على العرب التعامل معها.
كانت إيران تحت حكم الشاه مدفوعة بنفس العقدة التاريخية للاضطهاد والعظمة، ولكن مخاطر إيران الشاه كانت قابلة للتحجيم والترشيد بسبب الارتباط الوثيق بين إيران والولايات المتحدة، وبسبب افتقاد نظام الشاه لأيديولوجيا قادرة على عبور حدود الدولة الإيرانية لاختراق حدود الدول المجاورة، وهو ما تغير جذرياً فى أعقاب ثورة الخمينى التى فكت رابطة التبعية الأمريكية، وتبنت أيديولوجيا إسلامية ثورية سعت لنشرها فى الجوار العربى الإسلامى وفيه آذان مصغية مستعدة لاستقبال رسالة الإسلام الثورى، بما أتاح لإيران الفرصة لادعاء التحدث باسم الإسلام والمسلمين، وهو ادعاء يثير مشاعر القلق وعدم الأمان لدى مسلمين آخرين فى مواجهة هذا المقبل الجديد الذى يزعم الحق فى التحدث باسمهم، فيحرمهم الحق فى تقرير مصائرهم واختياراتهم بأنفسهم، ولا يترك لهم خياراً سوى الخضوع لإملاءات القيادة الثورية فى طهران.
منذ ذلك الوقت وجيران إيران يجاهدون لاحتواء التهديد الإيرانى عبر حرمان إيران من القدرة على اختراق مجتمعاتهم، وللإبقاء على عقيدة الدولة الإيرانية داخل حدودها، ولإقناع إيران بجدوى العيش والتعاون بين دول متساوية ذات سيادة لا تتدخل فى شئون بعضها البعض. نجح الجيران بالتعاون مع الحلفاء الدوليين فى احتواء إيران الثورة الإسلامية، وكادت إيران تتحول لدولة عادية بعد هزيمتها فى حرب الثمانى سنوات المدمرة ضد العراق، ورأينا إيران تنتخب محمد خاتمى رئيساً إصلاحياً معتدلاً يمد يده للجيران والعالم بحديث حوار الحضارات والعيش المشترك، فيما كانت القوى الراديكالية فى إيران تقاوم بحذر جهود خاتمى لتحويل إيران إلى دولة طبيعية. استطاع المعتدلون الإيرانيون تعزيز وضعهم فى مواجهة المتشددين هناك طالما كانت البيئة الإقليمية المحيطة بإيران قادرة على إحباط جهود المتشددين.
الدرجة المناسبة من التماسك الإقليمى والدعم الدولى فرضت على المتشددين الإيرانيين التراجع خطوات للخلف مفسحين المجال للمعتدلين باعتبارهم الأقدر على التعامل مع ظروف الحصار الخانق، وهو الوضع الذى استمر حتى قام الأمريكيون باحتلال العراق وتدمير أجهزة الحكم والجيش فيه، فانقلبت معادلة التوازن الطائفى فى العراق، وتسلمت الحكم هناك جماعات وأحزاب شيعية تدين لإيران بالولاء، وتحول العراق من معادل وكابح لنوازع الهيمنة الإيرانية إلى ملعب مفتوح لمخابرات إيران ونفوذها، حتى أصبحت طهران الطرف الأهم القادر على صياغة معادلات السلطة والحكم فى العراق، وخرج الأمريكيون من المولد العراقى الذين قاموا بنصبه بأنفسهم خالى الوفاض بعد أن قاموا بتسليم العراق لإيران التى طالما ادعوا العمل على محاصرة سياساتها العدوانية.
الاحتلال الأمريكى للعراق أعاد الثقة للمتشددين فى إيران بعد أن رأوا بلداً عربياً مجاوراً يتحول دون جهد إلى أرض خصبة جاهزة للخضوع لهم. عاد المتشددون لواجهة المشهد الإيرانى منذ انتخاب أحمدى نجاد، وعادوا لممارسة عاداتهم القديمة فى التوسع على حساب الجيران. إيران العائدة لسياسات التوسع والهيمنة بعد سقوط العراق ليست هى نفسها إيران التى حاربت العراق قبل عقدين. تخلت إيران عن حلم الثورة الإسلامية غير القابل للتحقق واستبدلته بحلم الانشقاق والهيمنة الشيعية الذى تم اختباره بنجاح فى العراق ولبنان. اختفى المنظرون الثوريون الذين طالما حرضوا شعوب الشرق على الثورة من المشهد الإيرانى وحل محلهم رجال دين منغلقون وجنود الحرس الثورى وعملاء المخابرات شديدو الدهاء، وهذا هو ما يواجهه العرب الآن فى سوريا والبحرين واليمن وبلاد عديدة أخرى.
المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة فى طريقة تعامل حكومات العرب مع الشيعة من أهل البلاد بما أتاح هؤلاء لقمة سائغة للتلاعب الإيرانى. حل مشكلات الشيعة العرب قضية طويلة المدى، فيما الصراع المحتدم بين العرب وإيران يحتاج لقرارات سريعة واستجابات فورية، وعلى القيادة السياسية فى مصر اتخاذ القرارات الصعبة فى وقت بات فيه التزام الخط الجانبى فى ملعب مشتعل أمراً شديد الصعوبة واختياراً تزيد تكلفته تدريجياً.