المساء
خيرية البشلاوى
رنات -حمدي أحمد وداعاً
مات حمدي أحمد "1933 ـ 2016" ولم ولن تموت شخصية "محجوب عبدالدايم" مهما كانت تكبره بسنوات عديدة.. الشخصية الخيالية أقوي من الشخصيات الحقيقية لو امتلكت مقومات الخلود وسكنت ذاكرة الجموع وبقيت في الضمير الجمعي تمثل قيمة أو مجموعة من القيم يقبلها أو يرفضها البشر. الخيال أقوي من الحقيقة وأقوي من الموت انه يتحدي فكرة الفناء وتلك عظمة الإبداع.
أبدع نجيب محفوظ ورحل عن عالمنا تاركا للخلود شخصيات تعيش من بعده وتتحرك وتحرك عقول وقلوب المصريين والعرب وتشبع وجدان أجيال وتستدعي من الحاضر والماضي شخصيات تتكرر بنفس الصفات وان اختلفت الملامح الخارجية.
رحل حمدي أحمد وسكن مثواه الأخير فخرج "محجوب" يطل علي الجميع ويصبح اسمه علي لسان من يترحمون عليه ومع كل رثاء مكتوبا كان أو منطوقاً أو مرئياً.
فهل يمكن استحضار "محجوب" بدون حمدي.. وهل تلاشت أو يمكن أن تتلاشي صورة الموظف الفاسد الانتهازي معدوم الكرامة. المحروم من الضمير الذي باع شرفه مقابل أن يحقق طموحه الوظيفي وهل يختفي ضحايا المجتمع الجائر الطبقي أو هل يتخلي الناس عن قتل الفقر بأي صورة من الصور طالما بقيت الغاية مبرراً للوسيلة.. "محجوب" ومصيره عظة لمن يريد الموعظة.. الإنسان أياً ما كان وفي أي مكان وزمان ومهما طال به العمر فلابد من نهاية.. وفي التقاليد الشعبية الريفية التي يعرفها ابن سوهاج جيداً نفرح لمن مات بعد أن أكمل رسالة الحياة ونقدم في عزائه "القهوة بالسكر".. إنما "القهوة السادة" فهي لمآتم الشباب.. والحمد لله رحل حمدي أحمد بعد أن أكمل مشواره وأتم الله نعمته عليه..
ولم يكن "محجوب" في "القاهرة 30" الشخصية الوحيدة التي تذكر بإنجاز الفنان الراحل وان كانت الأكثر شهرة هناك "محمد أفندي" في فيلم "الأرض" للمخرج يوسف شاهين عن رواية لعبدالرحمن الشرقاوي وهناك تلك الشخصية القريبة جداً من شخصيته في الواقع التي لعبها في "أبناء الصمت" للمخرج محمد راضي عن رواية لمجيد طربيا وشخصيته في فيلم "البداية" وفي "المتمردون" مع المخرج توفيق.. فلقد أنجبت عملية التزاوج بين الأدب المصري الأصيل وفن السينما ألبوما من الشخصيات المصرية الخالدة مثلما مثل الأدب العالمي طوال تاريخ الرواية نبعا لا ينضب من القصص والحكايات العاكسة لزمانها والأزمنة التي عبرت عنها.
وحمدي أحمد سواء في السينما أو الدراما التليفزيونية ثمرة طيبة لهذا التزاوج فهو فلاح علي الشاشة وخارجها. مصري حتي النخاع شكلا ومضمونا. ابن القرية وابن المدينة. فقير المال ثري الروح. ملتزم بالفطرة سياسي بطبيعة انحيازه. مصراً علي أن يكون عضواً فاعلاً في مسيرة وطنه. حاملا هموم الانسان البسيط ضد السلطة والتسلط. معارضاً لا يعجبه الحال المايل متصديا ما أمكن لأشكال الجور الاجتماعي.
حمدي أحمد ألبسه صناع الخيال في حقلي السينما والتليفزيون "جلبابا" يضاهي الصورة الذهنية التي تولدت عنه والتي تتوافق مع تكوينه الجسماني ومظهره ولغته ولهجته الريفية وما توحي به هذه الصفات ولكنه لم يكن بعيداً سواء في الخيال الروائي أو في الواقع الحقيقي المعاش عن صورة الإنسان البسيط المهموم بالصراعات الحتمية مع العدو الصهيوني ومع الفقر المذل ومع السلطة والفساد السياسي.
وقد ظل "فاعلا" بقدر ما يستطيع في صناعة لا يملك فيما الممثل رفاهية الاختيار إلا إذا امتلك الحظوة والنفوذ وترجمتها القدرة علي جلب المال في شباك التذاكر.
ورغم محاولات اختزاله في كثير من أدواره في مجموعة صفات بعينها إلا انه جاهد ضد أن يتحول إلي "نمط" ذلك لأن النمطية ضد الإبداع وضد طبيعة الحياة المتقلبة والمتحولة والمتغيرة أبداً.
وفي سوق الغرور "فانيتي فير" وأعني صناعة الترفيه واللهو فضل أن يبقي حافظاً لصورة المواطن حمدي أحمد وأن يمد طموحه إلي خارج أسوار صناعة الفن إلي عالم السياسة وأحياناً الكتابة معبراً عن الشرائح البسيطة من أبناء الشعب المصري.
خرج حمدي أحمد من الدنيا بما فيها من مجد زائل وغرور باطل وخيلاء جوفاء وتافهة ولم يصحبه في رحلة الوداع إلي مثواه الأخير من أبناء هذه "السوق" غير نفر قليل من زملائه.. فهكذا اعتدنا علي أي حال.. فحمدي أحمد ليس من أصحاب "البروفايل" العالي الذي يجعله داخل "فاترينة" يقف قبالتها رجال الأعمال المحتالون ولا فتوات الإعلام الباحثون عن اللامعين والمشهورين ممن يهرول ويحوم حولهم أسراب المتطفلين حاملي آلات التصوير "البابا راتزي paparazzi".
إنه رجل يحرص علي قيمة التواضع وان ظل هو نفسه قيمة وقامة ورمزاً مضيئا داخل هذه السوق الخاوية والدنيوية الفانية.. والحمد لله ان "بطاقة" الإنسان بعد رحيله لا يبقي منها غير ما يمثل حسنة جارية تنفع الناس.
رحم الله حمدي أحمد وكل من أعطي هذا الوطن وأخلص بقلبه ولسانه وأعماله أملاً في تقدمه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف