الوطن
كمال زاخر
اعتذار يؤسس لدولة المواطنة والقانون
لعلها المرة الأولى التى يبادر فيها رئيس مصرى بالاعتذار لمكون من مكونات وطنه، لنجد أنفسنا أمام منعطف إيجابى باتجاه دولة المواطنة والقانون. وبعيداً عن التناول الانفعالى نقرأ زيارة الرئيس السيسى للكاتدرائية وكلماته القليلة المحملة بعديد من الرسائل، نتوقف عند أكثر من إشارة ذات مدلولات تؤكد أننا ننتقل من الثورة إلى الدولة، الأولى كانت محتشدة بالغليان يدفعها تخوفات حقيقية على وطن اختطف للارتداد به إلى ما قبل الدولة، وكان السعى قائماً لتفكيكه على غرار تجارب قاسية تحيط به فى دول صارت أشلاء، لتتجمع إرادات الشعب المصرى بتنوعاته لتسترد الوطن مجدداً، وبصبر ومثابرة تحقق استحقاقات خارطة الطريق، فتستكمل مؤسساتها الدستورية، لتشق مسار البناء والتنمية رغم كل المعوقات والمتاريس، يأتى الرئيس لتهنئة المصريين المسيحيين بعيدهم، فيُلقم الأفواه المبحوحة حجراً علها تفيق إلى حقيقة أنها صارت خارج مدارات التاريخ، وهى تردد فتاوى الكراهية، وبالتوازى يكتب عقداً اجتماعياً جديداً يرسخ لخروج الأقباط من مربع الذمية إلى براح المواطنة، ويرسى تقليداً جديداً بشجاعة المقاتل وجسارة القائد، لتصبح الزيارة الرئاسية للكنيسة فى أعيادها سنّة وطنية تدعم أواصر التلاحم بين مكونات الوطن.

وفى كلماته التلغرافية يؤكد على التنوع والتعدد بعد أن عشنا وهم الانصهار والقولبة لعقود كدأب النظم الشمولية، ليفتح الباب لقيمة التكامل والقبول المتبادل، ويصبح التنوع ثراء لحساب التقدم والتنمية الحقيقية والتنافسية التى تفرز الكفاءات وتبنى جداراً سميكاً فى مواجهة الفساد.

ويعلن تثمينه للدور الوطنى للأقباط والكنيسة فى تلاحمهم الشعبى الذى كان أحد العوامل الفاعلة فى نجاح ثورة 30 يونيو، ليتأكد دورهم عبر التاريخ فى النضال الوطنى، والذى تبدى فى مقاومة الحملة الفرنسية، ودعم أحمد عرابى، ثم مقاومة المحتل الإنجليزى، ورفض التذرع بحماية الأقليات، والوقوف بجوار ومع الزعيم سعد زغلول حتى إلى المنفى، دون أن يقدموا فاتورة استحقاقات بعد نجاح ثورة 19، ويمتد شريط التلاحم لتمتزج دماء المصريين عبر مواجهات وحروب 48 و56 واليمن و67 وحرب الاستنزاف التى توجت بانتصار أكتوبر 73 المجيد، ويرصد التاريخ كيف تحولت إرادات الأقباط إلى مصدات امتصت إرهاب 14 أغسطس 2013 الذى انطلق فى أعقاب فض اعتصامى رابعة والنهضة الإجراميين ليحرق ويدمر ما يربو على 80 كنيسة ومنشأة خدمية مسيحية وعشرات من منازل الأقباط، ولم ينصَع الأقباط إلى دعوات التصعيد والخروج بملف الإرهاب إلى المحافل الدولية، فقد كانت قناعتهم إذا كان هذا هو ثمن حرية الوطن فسندفعه عن رضا.

وينتهى الرئيس فى رسائله إلى تقديم الاعتذار للمصريين المسيحيين عن التأخر فى ترميم وإصلاح ما تهدم ودُمر من بيوت وكنائس، ليرسى مبدأ غاب عنا كثيراً، أو ربما لم يجد له مكاناً فى أدبيات السلطة لقرون، وتلوح فى الأفق بوادر الدولة المدنية التى تعتمد الشفافية والموضوعية، والمصارحة والمكاشفة وتحمل المسئولية بقدر الموقع، وهو الأمر الذى يجب أن نُراكم عليه ونعمقه، فى حياتنا العامة والخاصة، وعلى مختلف الأصعدة، والمؤسسات العامة والحكومية، ولعل مجلس النواب يترجمه إلى حزمة من القوانين التى تضبط العلاقة بين مختلف الأطراف وتنتصر للمواطن لكونه مواطناً فى مواجهة موروث من الغلو فى تحصين الموظف العام أو الهيئات العامة.

يبقى أننا بحاجة ماسة لمزيد من الحسم والحزم لنزيل آثار الفوضى التى حاصرتنا لسنوات، وكادت أن تقتلع كل أشكال النظام والالتزام، والباب الرئيسى هو إعمال القانون وتفعيل سيادته، وبالتوازى العمل الجاد فى مراجعة غابة القوانين ومعالجة ترهلها وضبط صياغاتها، فلا تنمية ولا انضباط بغير الالتفات لمظلة القانون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف