تعانى اسبانيا تكلسًا سياسيًا واضحًا فى أعقاب أربعة عقود من عودة الديمقراطية والوفاق الوطنى الذى تمت صياغته فى أعقاب رحيل الديكتاتور فرانكو.. وظهرت معالم الارتخاء والتيبس فى تلك البطالة التى تجاوزت 20٪ من الأيدى العاملة ونفس النسبة لمن يعيشون تحت خط الفقر وموجات الغلاء وارتفاع الضرائب وتردى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانهيار سلة الحقوق الاجتماعية فى ظل خطط التقشف التى اعتمدتها حكومات الحزبين الاشتراكى والشعبى اليمينى.. وبالطبع كان للفساد أثر واسع فشملت فضائحه عددًا كبيرًا من السياسيين والأحزاب لاسيما الحزب الشعبى فضلاً عن هروب الرأسماليات الكبيرة من دفع الضرائب واستمرار مطالبات العقوبات المختلفة بحقوقها (الباسك ـ كتالونيا).
< فى هذه المناخات البائسة كان الصعود الكبير لحزب «بوديموس» ويعود أصل الحزب إلى حركة الغاضبين التى ظهرت فى اسبانيا فى مايو 2011 كجزء من الانعكاسات الغربية للربيع العربى وجاءت الحركة كرد فعل اجتماعى مدنى على تردى الأوضاع وفقدان آلاف الاسبانيين لمساكنهم ووظائفهم فكان هذا الحراك الاجتماعى الذى اعتمد التظاهر والاعتصام السلمى واستخدام التواصل الاجتماعى وانضمام ملايين الشباب وأبناء الطبقة الوسطى والفقيرة إلى هذا الحراك.
< حزب بوديموس صيحة غضب واسعة ضد النخبة التقليدية للسياسيين الإسبان.. ضد سيطرة أصحاب المصالح ورأس مال على مقدرات البلاد.. ضد الانسحاق أمام ترويكا البنك الأوروبى والبنك الدولى واللجنة الأوروبية.. «بوديموس» حقق نتائج مذهلة فى أول انتخابات خاضها فى الانتخابات الأوروبية ونال خمسة مقاعد منها مقعد لرئيسه «بابلو غليسياس» استاذ علوم سياسية و35 عامًا..!
< حزب بوديموس متهم من الجميع قوى اليمين وجماعات المصالح تتهمه بتلقى مساندة من فنزويلا.. جبهة اليسار الموحد تتهمه بأنه عباءة لليمين تتلحف بأشكال يسارية.. نجوى أحمد جويلى المصرية الأصل فازت بعضوية البرلمان الاسبانى عن مقاطعة غيبوثكوا فى اقليم الباسك وحصلت على أعلى أصوات (97 ألف صوت) على مستوى اسبانيا لتصبح اصغر أعضاء البرلمان سنًا وهذا يجعلها تدير الجلسة الافتتاحية للبرلمان.. وهى مرشحة عن «بوديموس» ومتخصصة بعلم نفس الأطفال وهى أيضًا عضو اللجنة المركزية للحزب ومن مواليد 1991!
< فى انتخابات المحليات حصد بوديموس 20٪ من الأصوات وفاز برئاسة كبرى المدن مدريد وبرشلونة وأصبحت مانويا كارمينا عمدة مدريد وآداكولا المدافعة الصلبة عن فاقدى السكن والوجه البارز لحركة الغاضبين عمدة لبرشلونة.. بالطبع كانت المحليات هى التربة الخصبة التى تحركت فيها جذور «بوديموس» ولاقت دعوات التغيير والمواجهة لموجهات البطالة والاعتداء على الحقوق الاجتماعية وطرح بدائل جادة فى مواجهة سياسات التقشف والافقار قبولاً واسعًا لدى ملايين الاسبان الذين ضجوا من افتقاد الرؤى والإرادة وتفشى الفساد بين طبقة النخبة السياسية التقليدية..
< فى الانتخابات البرلمانية التى جرت فى ديسمبر الماضى فقد الحزب الشعبى اليمينى أغلبيته وأحرز 123 مقعدًا، أما الحزب الاشتراكى فقد أحرز 90 مقعدًا وأحرز بوديموس 69 مقعدًا.. وهكذا أصبحت كافة الأحزاب غير قادرة على تحقيق الأغلبية اللازمة (176 مقعدًا) وقد أعلن بوديموس والاشتراكى رفضهما التحالف مع الشعبى اليمينى.. فى حالة العجز عن تشكيل أو الوصول إلى أغلبية سوف تتجه أسبانيا إلى انتخابات تشريعية جديدة.. بوديموس اخترق كل التوقعات واستطاع أن يجذب قطاعات واسعة من الشعب الأسبانى بإبداعه وتحويله الغضب السياسى إلى قوة مؤثرة جاذبة شاحنة ضد كافة ظواهر الفساد والانحناء والتجمد البيولوجى وسيادة أصحاب المصالح.
< أسس الجنرال فرانكو نظامًا ديكتاتوريًا عسكريًا متسلطًا واعتمد الحزب الواحد مستحضرًا كل ما هو فاشى فى أعقاب الحرب الأهلية الاسبانية (1936 ـ 1939) وقام بحظر العمل النقابى والحزبى لما له من آثار الشقاق والفتن وقد تسببت الحرب الأهلية فى سقوط 3 ملايين اسبانى وتشريد 2 مليون خارج البلاد وتنفيذ أحكام اعدام لما يقرب من 100 ألف واختفاء قسرى لعشرات الآلاف وتميز حكمه بانتهاكات بالغة لحقوق الانسان والحريات العامة وتوفى فرانكو فى 1975.. كان للملك خوان كارلوس دور أساسى فى استعادة أجواء الوفاق والعودة للحياة الديمقراطية وقام بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وتم الاستفتاء على وثيقة اصلاح سياسى فى عام 1976 وتشكلت حكومة انتقالية وتم تأبين وفاق وطنى بين القوى السياسية وفى مقدمتها الحزب الشيوعى الذى كان عصب المقاومة والحزب الاشتراكى وممثلى النقابات والاتحادات المختلفة وكذا الحزب الشعبى وحدثت مراجعات واسعة وجوهرية فى برامج الفرقاء نحو الديمقراطية والوفاق العام وكان استصدار دستور جديد فى 1978 وجرت محاولة انقلابية فى 1981 تصدى لها الملك وأسقطت واجريت انتخابات ديمقراطية تناوب الحزب الاشتراكى على حكم البلاد من 1982 حتى 1996 ثم كان الحزب الشعب اليمينى من 1996 حتى 2004 تم تبادل الحزبين الحكم وكانت تلك المسيرة استعادة للديمقراطية والوفاق العام وبالطبع كان لأربعة عقود من الزمان اثرها فى رخاوة ومصالح تتجمع وتتكلس للطبقة السياسية وانفجار للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى اطار سياسات التقشف فكان التمهيد لخروج حركة الغاضبين التى خرج من رحمها «بوديموس».
< تمكنت اسبانيا أن تعيد تصحيح مسارها نحو الديمقراطية وانتجت نخبة سياسية قادت وسارت فى رحلتها وعادت اسبانيا لتعيد اخراج نخب جديدة تعاود اصلاح الطريق لتفتح آفاقًا جديدة للإسبان طبقًا لتطلعاتهم وحقوقهم.. حركة الغاضبين المزهرة ألا ترسل قدرًا من رياحها نحو بلادنا بعثًا لإرادة جادة تعتمد التنظيم والتغيير ونخبًا قادرة على التواصل والبذل لخلق واقع معاصر لوطن يتطلع لشمس الحقوق والواجبات.