التحرير
نبيل عمر
إعلام المصطبة «4»
قطعًا لا نستطيع أن نصف برامج «التوك شو» كلها بأنها إعلام مصطبة، فهذا غير صحيح بالمرة، إذ نَفَذَ عددٌ من المذيعين والمذيعات ومقدّمى البرامج بجلده من براثن المصطبة، واحترم مشاهديه إلى حدّ كبير، وخاطب عقولهم قبل أن يخاطب مشاعرهم وغرائزهم، لكنهم قلَّة لم تستطع أن تصنع تيارًا عامًّا يُغيِّر شكل الإعلان المرئى فى بلادنا.

وقطعًا لا ننكر دور الجمهور فى إعلاء قيمة إعلام المصطبة، فهو يقبل بكل جوانحه عليه، كما يقبل على أفلام الوقاحة والقبح، فثمة مدرسة فى الإعلام والفن تلتحف بـ الواقع المشوَّه، لتستعرضه بكل تفاصيله البذيئة، باسم الواقعية، قطعًا ثمّة موهبة فى نقل هذا الواقع، لكنها موهبة مريضة ترى القبح فى الواقع قبل الجمال، النذالة قبل الشهامة، الخسَّة قبل الكرامة، العهر قبل الشرف، فتصنع فنًّا أو إعلامًا من هذه العاهات، وما أفلام البلطجية والمخدرات والعشوائيات بكل حواراتها المنحطة ولغتها الوقحة إلا تجسيد لهذا العتم فى البصيرة، خصوصًا أن جمهورها موجود وبكثرة، فى كل الطبقات، بعد انهيار التعليم وقيم العلم، وصار التليفزيون هو مصدر المعرفة للأغلبية.

وكان طبيعيًّا أن نسمع ألفاظًا من عينة طز، وخمورجى، وكذاب، وقليل الأدب، وفى ستين داهية، ومُزّة، وأنت غير محترم، وعجلة.. إلخ ، على شاشات التليفزيون، بل صار المذيعون يوجّهون اتهامات، ويحكمون أحيانًا بالإدانة على متهمين ما زالت قضاياهم منظورة أمام القضاء، بل ودخلت الكاميرات إلى المحاكم فى سابقة لا نظير لها فى أى دولة فى العالم، فتحوَّلت منصة العدالة إلى خشبة مسرح، بل راحت الكاميرات تتابع المتهمين بعد أى حكم قضائى بسؤالهم عن رأيهم فى الأحكام، سواء أكانت بالإدانة أو البراءة، ثم تسأل أهالى المتهمين المدانين فيصبّون لعناتهم وغضبهم على مؤسسة العدالة بكلمات حادَّة، باختصار نزع إعلام المصطبة الهيبة عن القضاء والمحاكم خلال السنوات الخمس الأخيرة قبل ثورة ٢٥ يناير، وحوَّلهما إلى مجرد مشاهد تليفزيونية ساخنة، وقبلت الدولة المصرية ذلك، لأسباب متعلقة بصراع على الأحكام فى قضايا سياسة رفضًا أو قبولًا، كما أن الغوغائية أسهل فى التوجيه والسيطرة عن بُعد، فى غياب التفكير العلمى المنظَّم والعقل النقدى، ناهيك بأن توسيع مساحة الملهاة فى حياة الناس تبعدهم نسبيًّا عن التركيز فى المصائب التى يعيشون فيها ومَن المسؤول عنها!

وبالإكراه حلّق هذا الإعلام أيضًا فى سماء قضايا مهمة للناس، وقلب فى أوراقها، فلم تكن كلها سيئات، حتى لو أن القناعات التى انتهت إليها المناقشات محيرة، ولا تصل بالناس إلى رأى يمكن البناء عليه، فكانت تصوّر الواقع المتخم بالأزمات والمشكلات والمصائب والفساد، دون طريق للخروج منه، كما لو أنه قضاء وقدر، يدفع الناس إلى الإيمان بمقولة لها أصل وقيلت على فراش الموت وهى مافيش فايدة ، فكان الناس أقرب إلى اليأس منه إلى الأمل.

وهذا ظهر واضحًا فى ثورة ٢٥ يناير، إذ كان أغلب الفضائيات (رسمية وخاصة) ضد حركة الشباب، وتذيع معلومات غير صحيحة عمدًا، وتبارى أغلب المذيعين فى الوقوف مع النظام، ثم انقلبوا تمامًا بعد نجاح الثورة!

لكن إعلام المصطبة لم يتغيَّر فى جوهره وإن تحسَّن أداؤه نسبيًّا!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف