التحرير
جمال الجمل
البرلمان بين القضاء والقدر
كلنا نعرف أن المحكمة الدستورية العليا ستحكم اليوم بعدم دستورية بعض البنود فى قانون الانتخابات، فالعوار القانونى أصبح سمة فى حياتنا التشريعية، لأننا فى حقيقة الأمر نحاول دوما توظيف القانون فى خدمة السلطة التنفيذية، وهذا يعنى أننا مصممون على وضع العربة أمام الحصان، فالحكم المتوقَّع يعنى إعادة قانون الانتخابات إلى ورشة الترقيع والتفصيل والإصلاح، وربما إعادة توزيع الدوائر كلها، لا بعضها، وبالمرة قد يتم هدم التشريع كله وعودة الخلاف فى قضية الفردى والقوائم.

فى تقديرى أن القضاء لا يستطيع أن يصدر قرارا غير عدم الدستورية، فالعوار التشريعى واضح منذ البداية، والنصوص معروفة للجميع، لكن هل يعنى ذلك الحكم حتمية تأجيل الانتخابات؟

لا شىء حتميًّا فى بلد الفوضى العارمة، كل شىء محتمَل، الخيارات وعكسها تقف على خط واحد فى مفترق طرق، والأكثر إثارة أن أحدا لا يعرف أين تؤدى هذه الطرق، والأرجح أنها جزء من متاهة عبثية لن تفضى إلى شىء، وهنا يأتى دور القدر ، وهو هنا يتمثل فى القرار السياسى الذى تفرضه السلطة التنفيذية، فهناك إرادة سلطوية تسعى للانتهاء من الاستحقاق الثالث فى خارطة المستقبل قبل الربيع المقبل، حتى لو تم ذلك بدرجة كبيرة من التلفيق والتشكيل الاسمى لبرلمان صورى، ينبغى عليه أن يصدق أنه مجرد ديكور لإقناع المجتمع الدولى بأن نظام الحكم فى مصر استكمل شروط شرعيته الدستورية.

هذا لا يعنى طبعا أن القضاء فى حالة الحكم المرجَّح بعدم الدستورية سيتعارض جذريا مع القدر ، أو يدخل معه فى صدام كما حدث فى أثناء حكم محمد مرسى، لأن التوافق فى مرحلة ما بعد 30 يونيو متوفر، والسلطات تتعاون فى ما بينها بطريقة زيتنا فى دقيقنا ، وإن كان ينبغى أن يتم إخراج هذا التوافق بشكل يليق بدولة البيروقراطية العميقة، وهو أمر سهل فى بلد التبرير والتمرير والحلول الورقية، والمفارقة اللطيفة هنا أن رئيس المحكمة الدستورية التى تنظر الطعون هو نفسه رأس السلطة التنفيذية التى وافقت على القانون بكل ما فيه من عوار وعدم دستورية، فقد كان المستشار عدلى منصور وقت اعتماد القانون هو رئيس الجمهورية، لذلك تنحى بشخصه عن التدخل فى نظر الطعون لتجنب الحرج!

فى الحقيقة لا تعنينى كل هذه اللخبطة، وكم كنت أتمنى أن نغمض أعيننا عن هذا العوار، لأننا فى وضع صورى لا يستقيم معه الرجوع إلى الدستور فى كل حياتنا، فالواقع الذى نعيشه يخاصم أى نص، ويجافى أى قواعد أو معايير، من مياه الشرب وأنبوبة البوتاجاز وحتى المشاريع القومية الكبرى، ومستهدفات المؤتمر الاقتصادى.

مصر تعانى، وتحارب على عشرات الجبهات فى ظل أوضاع صعبة، وأهدرت كثيرا من الوقت ثم وجدت نفسها فجأة أمام امتحان عسير، لذلك تريد أن تغش فى بعض المواد، لكى تضمن العبور إلى المرحلة التالية بأى شكل من أشكال النجاح.

لكن هذا لا يعنى أنها مقتنعة بالغش كأسلوب حياة، قد يكون مجرد حل اضطرارى للإفلات من المأزق، حتى لا تصبح فضيحتها بجلاجل أمام الشامتين والمتربصين فى الداخل والخارج، وربما يدفعها هذا الأسلوب (غير الصحيح) إلى الوقوع فى براثن الفاسدين القدامى الذين يحترفون الغش ولهم خبرات سابقة فيه، فتضيع النيات الحسنة وتنحرف السلطة القائمة فى اتجاه النظام الذى ثار ضده الشعب!

كل الخيارات المطروحة تكشف عن مأزق السلطة، ولا تلبى الطموحات النزيهة فى المجتمع، ومن هنا تولد التناقضات التى تجعل أى شىء صحيحا وممكنا وله ما يبرره لأنه المتاح حسب الظروف، وتجعل نفس الشىء خاطئا ومن الصعب تمريره لأنه لا يتفق مع القواعد التى نختارها كنصوص لا تكلفنا شيئا غير الكلام والأمنيات.

لذلك، بعيدا عن حكم المحكمة الدستورية، وعن رؤى الأحزاب المتنافسة، وعن الحلول البديلة التى يقترحها جهابذة القانون، سيبقى السؤال الصعب هو: هل يمكن أن تنجز السلطة استحقاق الانتخابات قبل الصيف، دون تعارض مع تصاعد الإرهاب، أو تنظيم المؤتمر الاقتصادى، أو الدخول فى متاهات قانونية لن تنتهى؟

هذا هو السؤال الذى يعنينى، لأن السياسة هى القدرة على فتح مسارات للحركة، وإذا تعطلت المسارات فهذا اسمه الفشل ، وهذا ما لا نتمناه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف