تشبه مصر الآن أسرة بسيطة كآلاف الأسر في بلادنا. تحاصرها المشكلات والمصاعب من كل اتجاه. و"تعافر" للخلاص من أزماتها المتراكمة. ورب البيت الذي تحيطه المطالب من كل جانب: أجرة الدار. وديون البقال والجزار. ومصاريف المدارس والجامعات. وتكاليف المدرسين الخصوصيين. والطبيب المعالج للاطفال. والادوية.. ألخ ألخ. لا يملك إلا دخله المحدود. الذي لا يكفي إلا بالكاد قوت اليوم. ولا يغطي حتي أكثر الحاجات ضرورة إلحاحاً!
ولنتصور أن هذا الأب المكافح. وجد من بين الابناء المدللين. من يصر رغم علمه بالأحوال البائسة علي أن يغتضب من الدخل الهزيل للأسرة. وكل أول شهر جزءاً كبيراً منه. يري أنه أحق به. لكي يشتري بدلاً وقمصانا علي الموضة. و"جل" للشعر. وأحذية آخر موديل وغير ذلك من حاجات مترفة. لأنها تكسبه "الوجاهة" اللازمة أمام زملائه. ضاربا عرض الحائط بصرخات أخوته ووالده ووالدته. الذين يجأرون بالشكوي لأن ألزم لوازمهم. كثمن الطعام. والمتطلبات المدرسية وأجرة المواصلات إلي الكلية. وثمن الدواء للصغيرة المريضة. غير متوافرة بسبب تبديد الابن المدلل إياه. الجنيهات القليلة المتاحة فيما لا ينفع. أو في أحسن الأحوال فيما هو غير ضروري بالمرة!.
هذه الصورة البائسة هي صورتنا الان. والتي يجب أن تكون رغم إيلامها وفجاجتها واضحة أمام الجميع. علي من لا يصدق الرجوع إلي توزيعات بنود الموازنة الاخيرة. والتي تعكس حالة "التوهان" الكبيرة التي تتعثر فيها البلاد.
ففيما وصل عجز الموازنة إلي 38.8 مليار دولار في العالم المالي 2014/2015 بعد أن كان 34 مليار دولار في العام السابق. أي بنسبة زيادة 14% وتستدين الدولة من "طوب الأرض" دولاً ومؤسسات اقراض دولية وأفراد بفوائد باهظة. وبشروط صعبة لتدبير أمور الحياة. وتوفير الحاجات الملحة التي لا غني عنها. في اللحظات الصعبة التي نجتازها. تماماً مثل الأب المسكين في الصورة التي بدأنا بها المقال. يصر الابن المدلل. وهو هنا المستوردون المصريون علي انفاق عشرات المليارات من الدولارات الثمينة. في استجلاب سلع لا حد لها من الخارج. أقل القليل منها ضروري ولا بديل عنه لإدارة عجلة الانتاج. لكن أغلبه أشياء محدودة القيمة. وبضائع استهلاكية وترفيهية. يمكن ببساطة إذا توفر الحس بالمسئولية الاستغناء عنها. واستبدالها ببدائل محلية الصنع. تسهم في توفير النقد الأجنبي لما هو أهم وأبقي. وتوفر فرص عمل هائلة للمواطنين المصريين إن هي أنفقت في السوق المحلي علي انتاج بضائع بديلة. وتساعد علي توفير عبء فوائد الديون الباهظة التي تستهلك أكثر من ربع الناتج المحلي من عرق وجهد الملايين من المصريين لسدادها كل عام.
وتعالوا نقرأ بعض بنود الانفاق الغريبة في الموازنة الاخيرة. التي تم فيها تبديد 76 مليار دولار. علي بند الاستيراد وحده "أي نحو 650 مليار جنيه. وهو ما يقترب من ثلاثة أضعاف حجم صادراتنا. والمقدر العام الماضي بـ 22 مليار دولار".
وضم بند الاستيراد العديد من الامثلة الهزلية. هذا بعضها:
طعام للقطط والكلاب: 153 مليون دولار
قمصان نوم وبيجامات حريمي: 194 مليون دولار
ياميش رمضان: 104 ملايين دولار
شيكولاته: 57 مليون دولار
لحوم طاووس ونعام وغزلان وما في حكمها: 95 مليون دولار
جمبري وكافيار: 78 مليون جنيه
سيارات للسباق. ومستلزمات ملاعب الجولف و"الباجي بيتش". وما في حكمها "600 مليون دولار. ألعاب نارية وشماريخ وبمب 600 مليون دولار
لعب أطفال: 55 مليون دولار
مكسرات وبهارات: 99 مليون دولار
كاكاو ومحضراته: 81 مليون دولار
جبن رومي وبصل وثوم: 36 مليون دولار
تفاح أحمر: 400 مليون دولار
أما الطامة الكبري. فتمثلت في بند السيارات الذي تصاعد في سنة واحدة لا غير. من 1.5 مليار دولار. إلي 3.2 مليار دولار أي بزيادة مذهلة بلغت 110% رغم الازدحام المريع لشوارع مصر المحروسة.
وكما نري فالولد المدلل السفيه يضيع كل دخل الاسرة والتي تجاوز تعدادها 90 مليونا. أكثر من ثلاثة أرباعهم إما فقراء مدقعون أو شديدو الفقر أو "مستورون" و"ضهرهم للحيط". علي ملذاته التافهة. لأن السادة المدللين من المستوردين يجنون من خلالها مكاسب هائلة. وليذهب التسعون مليوناً إلي الجحيم.