حسن ابو طالب
البيانات وحدها لن تردع طهران
كما كان متوقعاً، انتهى اجتماع وزراء الخارجية العرب الخاص بالاعتداءات الإيرانية على بعثتى السعودية الدبلوماسية والقنصلية بطهران إلى موقف عربى تضامنى جماعى مع السعودية، أدان كل التدخلات الإيرانية فى الشئون الداخلية للدول العربية، ووجه رسالة بأن العرب يريدون من طهران أن تغير سلوكها الخارجى تجاه المنطقة، وأن تسلك ما هو مقبول دولياً، وملخصة سياسات حُسن الجوار. الموقف العربى على هذا النحو لم يتضمن أى اتفاق على مواقف عربية محددة اللهم سوى متابعة الأزمة السعودية الإيرانية على مستويين؛ الأول تكليف الأمين العام بالتواصل مع وزراء خارجية دول الإمارات والبحرين والسعودية ومصر لبحث تطورات الأزمة وسبل التصدى للتدخلات الإيرانية فى الشئون العربية، والثانى الطلب من مصر بصفتها العضو العربى فى مجلس الأمن بمتابعة الموضوع مع مجلس الأمن.
باختصار اتفق الوزراء العرب على بحث كيف يمكن التصدى للتدخلات الإيرانية، والتى يزيد عمرها على ثلاثين عاماً. وهو ما يمثل صدمة كبرى، فالسياسة الإيرانية وتغلغلها فى العديد من المجتمعات العربية ليست أمراً جديداً، أو كان سرياً وتم اكتشافه مؤخراً، فكل شىء يتعلق بالتغلغل الإيرانى مرصود منذ سنوات طويلة، هو تغلغل قام فى جوهره على تخطى الحكومات والانغماس فى بنية المجتمعات سواء كانت بها تجمعات شيعية أو لا توجد بها، من خلال بناء منظمات وحركات اجتماعية ترتبط عضوياً بالسياسة الإيرانية وروحياً بالمرشد العام للجمهورية الإيرانية، وبحيث تكون بمثابة امتداد لنفوذ وتأثير إيرانى مباشر ومستديم. وأذكر هنا أنه فى أثناء رئاسة محمد خاتمى لإيران، وهو أحد رموز تيار الإصلاح فى إيران، أنه قام بزيارة لكل من دمشق وبيروت وصنعاء، وكانت زيارة ذات مغزى حاول فيها أن يؤكد حدوث تغيير فى سياسة بلاده تجاه الجيران العرب، وأنها سياسة سوف تقوم على التعاون والتعامل المباشر مع الحكومات وليس المنظمات أو الحركات المعارضة للنظم. وكانت رسالة إيجابية وتمنى الكثيرون أن تتوافر لها أسس النجاح والتطبيق الفعلى. غير أن بنية السلطة فى إيران وسيطرة التيار المحافظ على مفاصل صنع القرار، لم تكن تسمح بمثل هذا التغيير، لأنه ببساطة يعنى التخلى عن أدوات وأذرع تم الاستثمار فيها بكثافة وتراها السلطة العليا، ممثلة فى المرشد وكل التيار المحافظ، واحدة من أسس الانتشار الإيرانى وآلية توسع إقليمى مضمونة، وأنها أسلوب فعال حقق التفافاً على العقوبات الدولية وخفف كثيراً من نتائجها على الداخل الإيرانى. وحين جاء أحمدى نجاد ممثلاً للتيار المحافظ انقلب على كل سياسات خاتمى الخارجية، وأعاد الاعتبار مرة أخرى لمفاهيم تصدير الثورة الإيرانية وخلق الأتباع والأذرع المحلية فى أكثر من مكان، وإعلاء شعار قيادة إيران للمظلومين فى كل مكان.
ويعتقد المحافظون الإيرانيون أن مثل هذه السياسة الخارجية هى التى أحبطت كل محاولات الغرب لإسقاط النظام، وأنها كانت سبباً رئيسياً فى إقناع الدول الغربية بضرورة التعامل مع البرنامج النووى الإيرانى باعتباره واقعاً وُجد ليعيش لا مساومة على بقائه. وأن الاتفاق مع الغرب يمهد لمزيد من النفوذ الإيرانى فى المجال الإقليمى. ومعنى ما سبق أننا أمام سياسة تدخلية توسعية يرى أصحابها أنها حققت مكاسب كبرى ووفرت نطاق حماية لاستمرارية النظام ذاته، وبالتالى فهى مكون رئيسى فى بنية النظام الحاكم ولا بديل لها حتى الآن، ومن ثم فإن انتظار حدوث تغييرات رئيسية فى هذه السياسة لمجرد مناداة الجيران بها يبدو وكأنه حرث فى البحر لا أكثر ولا أقل. وهنا يثور التساؤل حول كيفية إقناع إيران بالتخلى عن سياسات التغلغل وخلق الأتباع والتحول إلى ممارسات الدول الطبيعية الملتزمة بالمواثيق الدولية؟ والمؤكد هنا أن فكرة الإقناع القسرى ليست واردة لا بالحرب ولا بغيرها، وإنما المطلوب هو سياسات عربية جماعية تؤدى إلى تقوية التيار الإصلاحى فى الداخل الإيرانى. والواضح أن كلاً من الرياض وطهران تدركان أن المواجهة المباشرة ليست مأمونة العواقب، وأنها ستشكل كارثة كبرى بكل المقاييس. فولى ولى العهد السعودى نفى احتمال الدخول فى حرب مع إيران، واعتبر من يفكر بالحرب فاقداً للعقل، حسب ما قال فى حواره مع مجلة الإيكونوميست البريطانية فى الرابع من يناير الحالى. ومن جانبه بعث وزير الخارجية الإيرانى برسالة إلى أمين عام الأمم المتحدة أكد فيها أن بلاده لا تريد تأجيج التوترات مع السعودية وسائر جيرانها فى الخليج.
إن نفى البلدين نية الدخول فى حرب يعنى أنهما يدركان العواقب الوخيمة لأى عمل عسكرى مباشر فيما بينهما سواء على مصالحهما المباشرة أو على منظومة الأمن الإقليمى فى منطقة الخليج، فضلاً عن التأثيرات السلبية على الاقتصاد العالمى إذا ما تضررت المواقع النفطية لهما والمُطلة على الخليج. والأقرب إلى المنطق أنهما يكتفيان بالمواجهة السياسية والإعلامية والتجارية، فضلاً عن المواجهة العسكرية غير المباشرة التى تجرى بالفعل بين مناصرين لكل منهما سواء فى سوريا أو اليمن أو فى لبنان.
وإن كان هناك تفكير لبناء موقف عربى جماعى يؤدى إلى إقناع السلطة الحاكمة فى إيران بضرورة التخلى عن سياسة التدخل السافر فى شئون الجيران، فإن إقامة سياج من العزلة العربية الشاملة على إيران تبدو بمثابة الخيار العملى والأقل تكلفة، من خلال قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية وخطوط الطيران ومنع السفر للأفراد ووقف التعاملات مع البنوك الإيرانية، ووقف الاستثمارات العربية هناك. وهى مجالات واسعة ولها شبكة مصالح كبرى فى الداخل الإيرانى، ومن شأن توقف كل هذه المجالات أن يتضرر أطرافها الإيرانيون بشدة، والمرجح بعد حساب الخسائر المجتمعية أن تزداد الضغوط الداخلية على التيار المتشدد القابض على صنع القرار، ولن يجد أمامه مهرباً سوى مراجعة سياساته فى تصدير الفوضى إلى الجوار الإقليمى. وبالقطع لن تحدث هذه التأثيرات إلا بعد مرور فترة من الزمن تتبلور فيها الآثار العكسية على الداخل الإيرانى، وهو ما يتطلب إصراراً عربياً واستمرارية جماعية فى سياسة عزل إيران واحتواء كل تهديداتها وإفشال أذرعها وامتداداتها الموجودة فى بعض المجتمعات العربية. ودون ذلك، ومهما كانت بيانات الإدانة أو التضامن قوية فى الأسلوب والمعنى، فلن تغير شيئاً على الأرض. فالمطلوب عمل وليس مجرد كلمات.