الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
وقد جُزيت كما يجزى سِنمار !
هذا الرجل الذى لم نستطع أن نعرفه فى حياته كما كان يجب لن نستطيع أن نعرفه بعد مماته. لأنه كان يشتغل بفنون لا تنتقل إلى الناس كما تنتقل الأخبار أو المعلومات العامة، ولا يستطيعون أن يتلقوها من وسطاء يحملونها إليهم من مصادرها، وإنما تنتقل هذه الفنون عن طريق الاتصال المباشر بين الذين يشتغلون بها وبين الجمهور.
أتحدث عن فنون اللغة والأدب وخاصة عن الشعر الذى لا نستطيع أن نعرفه إلا إذا تذوقناه. ولا نستطيع أن نتذوقه إلا بأن نتصل به ونتحاور معه ونعيش فيه كما نفعل مع أى فن آخر. وهل نستطيع أن نطرب لأغنية من أغنيات عبدالوهاب أو أم كلثوم إذا لم نستمع لها واكتفينا بالاستماع لمن يحدثنا عنها، أو بقراءة مقالة تعدد مافيها من كلمات وألحان ؟

والرجل الذى أحدثكم عنه لم يكن موهبة واحدة ولا معرفة واحدة، وإنما هو جملة من مواهب ومعارف اجتمعت فى رجل واحد وتكاملت فيه وأينعت وأنبتت من كل زوج بهيج.

كان شاعراً ناقداً حجة فى النحو والصرف والعروض. والنحو والصرف والعروض ليست فنونا كما نعرف. وإنما هى علوم يدرسها طلاب اللغة ويستعينون بها فى قراءة النصوص الأدبية والشعرية وفهمها ونقدها. ولكن التخصص فى أى علم والتعمق فى معرفته إلى الحد الذى يمكن العالم المتخصص من كشف أسراره والاجتهاد فيه، والإضافة إليه يحوله عنده من علم إلى ف،ن ومن معرفة إلى موهبة وإبداع. وهذا هو المستوى الذى وصل إليه الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف الذى رحل عن دنيانا فى اليوم الأخير من العام المنصرم.

لم يكن محمد حماسة عبداللطيف مجهولاً، إذا قيست معرفتنا إياه بالشهادات التى حملها والمناصب التى احتلها، والمؤلفات التى أصدرها، والطلاب الذين تعلموا على يديه، بل كان بهذه المقاييس معروفاً مشهوراً. فقد حصل على الليسانس فى اللغة لعربية من كلية دار العلوم بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. ثم حصل على الماجستير والدكتوراه. واشتغل بالتدريس وترقى فيه حتى أصبح رئيساً لقسم النحو والصرف والعروض فى دار العلوم. ثم أصبح عميداً لمعهد اللغات فى الجامعة الإسلامية فى إسلام أباد فى باكستان.

وعاد إلى مصر ليصبح وكيلاً لكلية دار العلوم وعضواً فى مجمع اللغة العربية فنائباً لرئيس المجمع، وهو إلى جانب هذا عضو فى لجنة الشعر فى المجلس الأعلى للثقافة، وعضو فى مجلس أمناء بيت الشعر.

هذه الثقافة وهذه المعاشرة الطويلة لفنون اللغة والأدب أهلت محمد حماسة عبداللطيف لأن يكون ناقداً للشعر مستوفى الشروط كامل الأدوات ينظر للقصيدة من حيث هى قصيدة، أى من حيث هى لغة خاصة تؤدى فيها الكلمات والجمل والأوزان والقوافى وظائف يتجاهلها بعض النقاد الذين يقرأون الشعر كما يقرأون النثر ولا يميزون بينهما إلا بالعواطف والصور التى يجدونها فى القصيدة ويعتبرونها مزايا شخصية أو وجدانية ينسبونها لذات الشاعر لا لغته.

لكن ثقافة محمد حماسة عبداللطيف التى جمع فيها بين العلم والموهبة وبين تراث الماضى والحاضر مكنته من التعرف على المناهج النقدية الجديدة التى ردت للشعر حقه ونظرت إليه باعتباره لغة قبل أن يكون عاطفة أو وجدانا. وهو منهج اعتمد فيه حماسة عبد اللطيف على النقد العربى القديم من ناحية، خاصة ماقدمه عبدالقاهر الجرجانى فى تفسير الشعر بالنحو، كما اعتمد فيه من ناحية أخرى على ماقدمه البنيويون دى سوسير، وياكوبسون فى اللغة وفى نقد الشعر. فاللغة ليست ألفاظاً أومفردات، ولكنها بنية أو نظام من العلاقات.

أقول إن محمد حماسة عبد اللطيف كان يستطيع عن طريق هذا المنهج الذى تمكن منه وبرع فى استخدامه أن يساعدنا فى قراءة الشعر واستعادة علاقتنا الحميمة باللغة الفصحى لو كنا أفسحنا له فى منابرنا الثقافية والإعلامية كما فعلنا من قبل مع الجيل الأول من أساتذة الجامعة الذين أدوا فى حياتنا الثقافية الدور الذى كان يؤديه سقراط فى أثينا القديمة.

كان سقراط يرى أن الحكمة حق للجميع يؤديه لهم حيث يلقاهم فى الأسواق والساحات العامة، يستوقفهم ويسألهم ويسألونه، ويمتحنهم ويمتحنونه، ويعلمهم كيف يميزون بين الظن والعلم وبين الإيمان والإلهام. وهكذا فعل طه حسين حين لم يكتف بأداء واجبه نحو طلابه داخل الحرم الجامعى، وإنما نقل محاضراته من قاعات الدرس إلى صفحات الجرائد ينشرها على الناس مقالات وأحاديث يحاور فيها صاحبه ويعرف قراءه بالشعر القديم والشعر الحديث، ويطرح عليهم الأسئلة ويناقشهم ويخوض معهم معارك حفظ لنا التاريخ أخبارها كما فعل مع مصطفى صادق الرافعى ومع غيره من المثقفين المحافظين. وكما فعل طه حسين فى «السياسة» و«الجهاد» وغيرها من الصحف المصرية التى كانت تصدر فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى فعل أحمد أمين فى «الثقافة»، ومحمد مندور فى «الوفد المصرى» و«صوت الأمة»، وواصل هذا الدور لويس عوض فى «الجمهورية» و«الأهرام»، ومازال يواصله مراد وهبة، وجابر عصفور، ومحمد عبدالمطلب، وصلاح فضل، وجلال أمين وآخرون من أساتذة الجامعة، لكن فى ظل مناخ طارد مغلق لا تتوفر فيه الشروط التى توفرت للأجيال السابقة.

لقد تراجع الشعر فى حياتنا وتراجع النشاط الأدبى كله إبداعاً ونقداً وتراجعت اللغة لأنها أصبحت أداة معطلة ممنوعة من الفعل. واللغة تنشط وتنهض وتبدع حين تكون حرة. أى حين تكون تعبيراً حراً عن تفكير حر. وهذا شرط لم يعد متحققا فى أواسط القرن الماضى الذى كنا ممنوعين فيه من ممارسة أى نشاط يستدعى أن نتواصل أو نجتمع أو نتحاور أو نتناقش أو نفكر بحرية أو نعبر بحرية.

القوانين التى سنتها حكومات الاستبداد كانت تعتبر اجتماع خمسة من المصريين تهديداً للأمن العام. وكانت تحرم تشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات وإصدار الصحف. وكانت البرلمانات المزيفة تجتمع لتصفق للرئيس، لا لتعارض أو تحاسب وزيراً أو مسئولاً. ونتيجة كل ذلك خلو الساحة تماماً من أى نشاط قومى حر، وسيطرة أجهزة الأمن على كل شىء، وانهيار التعليم مع غيره من الخدمات التى انهارت ، وتراجع اللغة وانزواؤها وحبسها داخل برامج مدرسية مقطوعة الصلة بالحياة وبالمجتمع الذى قرر على مايبدو أن يختصر الطريق ويستغنى عن الفصحى وشعرها ونثرها وأساتذتها ومنهم محمد حماسة عبداللطيف الذى حرم فى آخر أيامه من مواصلة عمله كأستاذ غير متفرغ فى كلية دار العلوم. يقول عن هذه الواقعة فى آخر مانظم من شعر :

لم أفعل العرف لا خوفاً ولا طمعاً

لكنه اللهُ، والأخلاقُ، والدارُ

ماكنت أبغى سوى حسن الوداد به

وقد جُزيت كما يجُزَى سِنماّرُ !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف