عباس الطرابيلى
هموم مصرية -الألم.. أخطر من الأمل في أسوان
في أسوان- رأيت الألم والحزن الدفين- رأيتهما في الشوارع.. وعلي صفحة النيل، وفي المتاجر والفنادق.. وحتي سائقي التاكسي والحنطور.
رأيت مأساة أسوان رغم انني قضيت هناك ساعات قليلة ولكن المأساة كانت شديدة الوضوح.. رأيت الشوارع خالية.. سواء من أبنائها بسمرتهم المحببة.. أو من السياح، والمحلات خالية تماماً، حتي من المصريين وكأن المصري- هناك- يوفر ما بقي في جسده من سعرات حرارية- فلا بيع ولا شراء.. ولا حتي قليلاً من الكركديه أو الدوم أو حتي التمور والفول السوداني «المحمص بالطريقة الأسوانية» أو مجرد طاقية أسواني تغزلها سيدات أسوان وبنات النوبة، ومازلت أتذكر أول زيارة قمت بها لأسوان.. عام 1956، حيث كنا نشتري أي شيء وكل شيء وبذلك تنشط الحركة التجارية.. والكل يكسب، ولكنني- هذا الأسبوع.. لم أجد شيئاً من ذلك.. كأن المدينة وكل ما فيها في حالة حداد شامل يغلف كل حياتها الآن.. فلا سائح أجنبيا، أو حتي مصريا.
<< رأيت مأساة المدينة وأهلها في عدة مظاهر.. في صفوف سيارات التاكسي فوق الأسفلت.. وفي المراكب السياحية الكبيرة «الكروز» وهي تقف صفوفاً متراصة علي امتداد الكورنيش.. وكانت الصفوف تضم 4 كروز كبيرة في كل مجموعة يعني 8 كروز في الكتلة الواحدة.. مع تكرار كل هذه المجموعات، وهي «الكروز» التي كانت تعمل زمن السياحة، عندما كانت عندنا سياحة، بين أسوان والأقصر.. وكانت تحتاج إلي حجز مسبق وبأيام عديدة قبلها.. بكل ما يمثله ذلك من عائدات ودخل.. ونشاط.. وحياة.
ورأيت المأساة علي طول الكورنيش.. وعند كل جندل أو صخرة علي شاطئ النيل، أقصد مراكب النزهة الصغيرة، شراعية.. أو بموتور.. وكانت تعمل بنشاط عظيم، عندما كانت عندنا سياحة.. ولكنني رأيتها تقف بالعشرات، وربما بالمئات، علي الشاطئين بلا عمل ولا رحلات وكان يعمل عليها العديد من أبناء أسوان.. من مراكبية أو حتي تراجمة ومرشدين، وحالمين بالزواج من السائحات الجميلات! وكل من يتعامل معهم.. ومعها من نشاط تجاري وصناعي يدوي يدخل كل بيت من هواة شراء «التذكارات».
<< ورأيت مأساة أسوان ونحن نعبر النيل من المرسي ونحن قادمون من المطار الذي يحمل لنا- في تصميماته شكل بوابات وعيون خزان أسوان القديم، وأيضاً أعمدة معبد «فيلة» الشهير فجاءت واجهة المطار معبرة عن وجه أسوان القديم.. ووجه أسوان منذ بداية الخزان العظيم.. أقول وجدت المأساة عند المرسي الخالي لنعبر النهر إلي شاطئ فندق «جزيرة إيزيس».. ثم ونحن نلمح علي الشاطئ الغربي لأسوان فندق «كتراكت» التاريخي.. وهو شبه خال..وكادت دموعي تتساقط وأنا ألمح فندق «كتراكت» القديم وقد دخلته مرات عديدة أيام مجده الخالي، عندما كان قبلة السياح الأجانب.. وأيضاً الموسرين من المصريين.
<< ورأيت المأساة علي صفحة النيل نفسه.. كان منسوب مياه النهر منخفضاً أقل من منسوبه العالي بحوالي مترين ونصف المتر.. فهل هذا هو المنسوب العادي.. أم مقدمة لما سوف يصيب منسوب النهر أكثر بعد اكتمال بناء إثيوبيا لـ«سد النهضة» لها.. سد العطش لكل المصريين فهل يجف النهر فلا نجد مياهه تعبر أسوان متجهة إلي الشمال.. أم يتوقف هنا.
ورأيت مأساة أسوان ونحن ندخل فندق «جزيرة إيزيس» لنتناول الغداء في مطعم «رمسيس» الشهير بالفندق.. ولم نلمح سائحاً واحداً في هذا المطعم.. ولا حتي في كل الفندق وردهاته.. ورغم ان الفندق يضم 450 غرفة- من أفضل ما في أسوان- فإن نسبة الإشغال فيه لا تتعدي 50 غرفة.. كما أكد لي مديره محمد فكري المدير العام لهذا الفندق الذي عجزت مرة عن حجز غرفة- زمن العز- لأنني لم أحجزها منذ شهر، علي الأقل!
<< هنا سألت المدير العام للفندق- محمد فكري- عن الحل؟ قال أن تسمح لنا شركة مصر للطيران- مثلاً- بالتعاقد المباشر مع شركات السياحة العالمية في أوروبا.. ولكن الشركة قالت: عليكم بشراء الطائرات يعني حجز عدد من المقاعد، سواء تعاقدتم أو فشلتم، وأضاف إن تعاقدنا مع سياح دولة واحدة يكفي لتغطية الموسم السياحي، وغيره.. ولكن طائراً واحداً لن يغرد، ومأساة هذا الفندق هي صورة من كل ما يحدث في فنادق أسوان.. وكل السياحة.
والفنادق ليست مجرد غرف للنوم.. ولكنها الاستثمار الأمثل.. بداية من خضراوات وفواكه تستخدم في الفنادق للمطاعم.. إلي طباخين وسفرجية وعمالة إدارية وفنية تعمل في كل النشاط الفندقي.. وهذا الآن غائب تماماً عن السياحة وعن الحالة.. في أسوان.
<< هل هذه فقط- هي صور المآسي التي تعيشها أسوان الآن؟ لقد رأيت المأساة وأنا في الطائرة قبل أن تهبط في المطار.. رأيتها مجسدة أمامي في بحيرة السد العالي.. رأيت ما هو متوقع وبالذات بعد أن تبدأ إثيوبيا عملية تعبئة بحيرتها عند «سد النهضة».
ولكن ماذا رأيت من نافذة الطائرة؟! هذا حديثنا في الغد إن شاء الله.