الدستور
د . أحمد الخميسى
«الدفتر الكبير» فن الكراهية
صدرت مؤخراً بالعربية ترجمة رواية «الدفتر الكبير» تأليف الكاتبة الفرنسية «من أصل مجرى» أجاوتا كريستوف. أتوقف عندها لأنها تثير قضية غاية فى الأهمية، وأعنى العلاقة بين نفسية الكاتب - إن جاز التعبير- والأدب، أو رؤية الكاتب للعالم التى تتضمن ميوله النفسية. فى رواية «الدفتر الكبير» سنجد أننا أمام كاتبة متمكنة من الفن الروائى بكل أدواته، وبالقدرة على عدوى القارئ بأنفاس الأحداث وحضور الشخصيات. تقدم لنا أجاوتا كريستوف صبيين صغيرين توءم تتركهما أمهما لدى الجدة فى قرية مجرية نائية على الحدود مع سويسرا بعد أن شح الطعام فى العاصمة بودابست وأمست المدينة تعانى من ويلات القصف اليومى فى الحرب العالمية الثانية. الصبيان هما الشخصيتان الرئيسيتان فى الرواية ومن خلالهما نرى العالم والشخصيات الأخرى كالجدة التى لا تنادى الولدين إلا بقولها: « يا أولاد الكلبة»، ولا تبدى أى تعاطف معهما. الولدان يدربان نفسيهما على تحمل الألم وصولاً إلى جلد كل واحد منهما للآخر. ويلتقى الصبيان بضابط مريض مهووس بحب تعذيب الذات يطلب منهما أن يجلداه فيقومان بذلك من دون أى غضاضة. ويقوم الولدان على صغرهما بتدبير تفجير فرن فى كنيسة يشوه وجه خادمة لم تكن تروق لهما. ثم تموت فتاة قبيحة جارة لهما، فتطلب أم الفتاة من الولدين قتلها وإضرام النار فى منزلها فيقومان بالفعل بذبحها بالموس استجابة لرغبتها ويشعلان النار فى بيتها: «ذبحناها بضربة موسى ثم أضرمنا النار وعدنا للمنزل»، وعندما توشك جدة الولدين على الموت تطلب منهما أن يضعا لها السم لتموت بسرعة فيفعلان ذلك، وعندما تعود أمهما إليهما والحرب على وشك الانتهاء وتقف تتحدثمعهما فى الحديقة تهبط إحدى القذائف فتقتل الأم، فيدفنها الولدان فى الحفرة التى أحدثتها القذيفة، وعندما تسألهما ابنة العم: «هل حدث شىء ما؟» يقولان لها: «أجل. قذيفة أحدثت حفرة فى الحديقة»! كأن موت الأم التى جاءت من آخر الدنيا للقائهما لا تعنى لهما شيئاً أى شىء، سوى حفرة فى الحديقة». الأنكى من كل ذلك أن الولدين يقودان والدهما للموت بعد ذلك ويستخدمانه بخطة مدبرة ليتمكنا من الفرار عبر الحدود! وقد حاول البعض فى قراءة الرواية تفسير ذلك كله بقسوة الحرب التى تشوه البشر. لكن هل حقاً أن الحرب- والولدان فى الريف بعيدان عنها- هى التى أدت لكل ذلك الشر؟ أم أنها « نفسية الكاتب» التى تستقبل العالم وتعيد إرساله بصفته شراً خالصاً؟.ولو أننا استبدلنا بأزمة الحرب «التى دفعت الأم لترك ولديها» أزمة أخرى، كأن تكون الأم قد عجزت عن إعالة ولديها، لما تبدل شىء فى الرواية. فالقسوة والكراهية هنا ليست ناجمة عن ظروف الحرب ولا تربطها بها علاقة سببية قوية. للأسف هناك أدباء من هذا النوع، يعتم العمل بين أياديهم بسبب الطبيعة النفسية للكاتب. وإذا لم تكن نفسية الكاتب مشبعة بحب العالم والعطف على البشر فإن كل اقتدار أدبى يسقط فى الوحل، ذلك أن الكتابة هى علاقة مع الناس، وإذا كان الكاتب يرى فى الناس الشر وحده ويكتب لهم، فإن ذلك يشبه رسالة من رجل إلى امرأة يبغضها إلى حد الموت، وما من أديب عظيم إلا وكان محباً عظيماً للبشر. هذا هو سر الكتابة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف