عمرو حسنى
كيف نكسر الدائرة الجهنمية؟
فى نهاية مقالى الماضى تحدثت عن دائرة الصراع الجهنمية بين الأنظمة الطبقية الظالمة وجموع الكادحين، التى لا يمثلها كيان قوى منظم تختاره للتعبير عن طموحاتها ويفوز بأغلبية برلمانية، بعد أن ينظم الجماهير للدفاع عن حقها فى الاختيار ويفضح انحياز مؤسسات الدولة وتدخلها فى هندسة العملية السياسية، وينتزع انتصارًا ديمقراطيًّا رغم التزوير والتجاوزات الأمنية. أو تقود كوادره التى تتقن العمل السياسى الشعبى نضال جماهيرها السلمى فى الميادين فى لحظات الصدام التاريخية، حتى لا تضيع تضحيات البسطاء هباءً وتقع ثمرتها فى فم التيارات الرجعية المنظمة التى غالبًا ما يصنع انتصارها عودة سافرة إلى تمكين النظام الطبقى المستبد من جديد. هذه الحلقة الجهنمية لا يكسرها إلا وجود قوة جماهيرية يمثلها تنظيم هائل العضوية.
هذه التنظيمات لها وجود فى الواقع وليست أوهامًا خيالية ولكنها لا تهبط أيضًا من السماء ولا تولد فى يوم وليلة. نظرة واحدة على الأرقام الهزيلة للعضوية فى أحزابنا الحالية التى يعمل بعضها منذ عشرات السنوات يمكن أن يصيب المرء بالإحباط ويدفعه إلى السخرية من هذه الفكرة.
كثير من الناشطين السياسيين والاجتماعيين المعروفين وكثير من ذوى الاهتمامات التافهة أيضًا لهم متابعون على فيسبوك وتويتر أكثر من عدد أعضاء أحزاب التجمع والوفد والجبهة الشعبية مجتمعين!
تجربة تونس التى استلهمت تجارب الاتحادات العمالية فى أمريكا اللاتينية التى تتكون من نقابات مستقلة تتكاتف فى اتحاد عام للشغل، هى خير مثال على تجميع القوى الاجتماعية المهمشة فى تيار سياسى ينظم قواعدها، ويقود نضالها من أجل تحقيق طموحها فى الوصول للعدالة الاجتماعية.
المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية التونسيتان لم يتم تحييد دورهما فى الصراع الاجتماعى إلى حد بعيد بعد سقوط بن على، إلا كنتيجة منطقية لوجود تيارين اجتماعيين كبيرين هما اتحاد الشغل اليسارى وحزب النهضة الإسلامى اللذان تنافسا على السلطة وأصبحت ضرورة الحياد وتنظيم الصراع ديمقراطيًّا بينهما هى الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون وقوع تونس فى مطحنة حرب أهلية ضروس.
انظر أيضًا إلى التنازلات التى وافق عليها حزب النهضة مرغمًا تحت ضغط الحشود التى قادها اتحاد الشغل العام، ليوقف استمرار إخوان تونس فى المضى على طريق مخطط الاستحواذ والتمكين. النماذج الأقوى لنجاح تنظيمات العمال والمزارعين ذات الجماهيرية العريضة تتضح أكثر بالطبع فى دول أمريكا اللاتينية.
هناك حدثت انتصارات مذهلة لتلك التنظيمات رغم تحالف قوى اليمين الطبقية مع الكنيسة ومع الجنرالات ومع رموز الفساد المؤسسى، لفرض هيمنة نموذج لحكم ديكتاتورى مستبد كانت زحزحته من على مقاعد السلطة بعد تمترسه لعشرات السنوات تبدو مهمة مستحيلة. تأمل مثلًا تجربة لولا دى سيلفا فى الوصول إلى الحكم بقيادته لحزب العمال البرازيلى بعد صراع مرير مع الحكم العسكرى. الأحزاب لدينا قصيرة النفس ولا تعرف كيفية إدارة العمل الجماهيرى بطريقة صحيحة.
النقابات المستقلة التى يمكن أن تضم فى عضويتها مئات الآلاف من الباعة الجائلين وأصحاب الحرف الصغيرة يمكن أن تجمعها فى ما بعد آلية قانونية تنظم جهودها تسمى باتحاد العمل العام المستقل. بحيرة الحياة السياسية الراكدة لا تتحرك إلا بوجود تلك الكيانات. تريدون كسر الدائرة الجهنمية؟ دعونا نسير فى الطريق الصحيح.
دراسة نجاح تنظيمات قوى العمل بكل أنواعها فى أمريكا اللاتينية وفى تونس متاحة للباحثين. كل تلك التنظيمات أثمرت عن كيانات فاعلة غيرت فى معادلات القوى السياسية فى بلادها فى ظل أنظمة ديكتاتورية غاية فى التوحش والاستبداد، وفى حضور كثيف لتيارات ماضوية غاية فى الرجعية والتخلف كانت تملك قدرات مالية صنعت لها شعبية كبيرة بتقديمها لخدمات بسيطة فى العشوائيات ولم تكن تجد من ينافسها.
قيمة التجربة الإنسانية أنها عابرة للحدود وتتيح لمن يمتلكون الإرادة والقدرة على الدراسة والحلم أن لا يبدؤوا رحلتهم من نقطة الصفر.