الأهرام
على مبروك
المعركة الراهنة حول المرويات في مصر
رغم ما يجري في مصر هذه الأيام من التعارك حول تراث المرويات في الإسلام، فإن التأكيد يبقى لازماً على ضرورة التعامل النقدي مع هذا التراث الضخم، لا من أجل مراعاة ظروف التطور، بل من أجل الإسلام ذاته. وهكذا فإن القيمة الكبرى لهذا النقد إنما تتأتى مما دخل على الدين من المفاسد عبر تلك المرويات، أو بعضها. ولعل ذلك ما يُظهره التباين بين طريقتين في التعاطي مع هذه المرويات؛ تتمثل (أولاهما) في طريقة الجيل الأول من المسلمين (الصحابة) الذين ألحوا على الإقلال من رواية ما سوى القرآن، وبالغوا في التحذير من إسناد الأحكام إليها، ومارسوا ضروباً من التضييق بلغت حد إيقاع الأذى البدني بمن يشتغلون بالرواية؛ بمثل ما جرى من عمر بن الخطاب مع الراوية الأشهر أبي هريرة، وأما (ثانيتهما) فإنها تتبدى في طريقة من خلفوهم ممن لم يكتفوا بالتوسِّع في الرواية وإسناد الأحكام إليها، بل وتعدّوا إلى حيث رفعوها فوق القرآن حين جعلوها حاكمةً عليه، وناسخةٍ له.

وبالطبع فإن هذه الممارسة التي تجاور فيها التوسُّع في الرواية والإكثار منها من جهة، مع التعالي بها إلى حد اعتبارها من الوحي من جهة أخرى، قد فتح الباب واسعاً أمام دخول الكثير مما ليس من الدين ليصبح من فروضه. وهكذا فإن الكثير من المرويات التي تعكس ميول مروجيها وانحيازاتهم قد تحولت إلى معتقداتٍ وأحكام يتبناها المسلمون اللاحقون كفرائض يعبدون بها الله؛ وفي ظنهم أنهم يُخلصون له الدين.

وحين يدرك المرء أن السياسة كانت هي الأصل في كلٍ من التوسُّع في منظومة المرويات وتضخمها، وفي التعالي بها إلى حيث أصبحت موضوعاً للقداسة كالقرآن، فإنه سوف يبلغ- لا محالة- إلى حد اليقين بأن بعضاً (كثيراً للأسف) مما يتعاملون معه كدين، هو في الأصل سياسةً أُريد لها أن تدوم أبداً. ولعل السبب في ارتباط التوسُّع في وضع المرويات والتعالي بها- عبر نسبتها إلى السلطة العليا في الإسلام- بالسياسة يتأتى مما أظهرته زالنصوص المقدسةس من القدرة الفائقة على حسم معاركها الملتهبة. حيث لم تكن السيوف أبداً هي أداة الحسم في حرب صفين، بل كانت صحائف القرآن المُعلقة عليها؛ وبما أدى إلى تبلور الاعتقاد بأن القول (منسوباً إلى مصادر السيادة العليا في الإسلام) هو السلاح الأكثر حسماً في معارك السياسة. ومن هنا ما بدا من إن معاوية كان هو من شجع على الإكثار من الرواية، على العموم، بعد أن أدرك الدور الذي يمكن أن تلعبه المرويات المنسوبةً إلى مصادر السيادة العليا في الإسلام (الله ورسوله) في تثبيت دعائم السلطة لعصبيته الأموية. وعلى أي الأحوال، فإنه يمكن القول أن ما فتح الباب واسعاً أمام الاتجاه إلى الإكثار من المرويات والتعالي بها قد كان هو ما أظهرته حرب صفين من أولوية (النص) على (السيف) في حسم معارك السياسة.

ولسوء الحظ، فإن دور المرويات قد تجاوز مجرد حسم المعارك التي عجزت السيوف عن حسمها إلى ما أظهرته من تمكين السلطة السياسية من السيطرة على جمهور العوام الذين كان النظر قد استقر إليهم على أنهم لا يملكون عقلاً يمكن التأثير عليهم به. وإذ لا يبقى من سبيل للسيطرة على هؤلاء العوام الذين لا عقل لهم إلا (السيف) أو (النص) من الله أو الرسول، ولأن النص يكون أقل تكلفةً من السيف بكثير، وهناك الكثير من المواقف التي تستدعي نصوصاً نوعية لا وجود لها في القرآن، فإن ذلك قد فتح أمام وضع الأخبار، ونسبتها إلى النبي الكريم، للتأثير بها في قطعان العوام.وإذ كان من الضروري أن تكتسب هذه المرويات سلطةً تكون معها مُلزمةً للجمهور، على نحوٍ لا يمكنهم معه أن ينّفكوا من سطوتها) فإن التوسُّع فيها كان مصحوباً بالتعالي بها إلى المقام الذي أصبحت فيه وحياً أنزله الله مع القرآن.

ولقد كان الشافعي هو الذي بدأ سيرورة الارتقاء- مع نهايات القرن الثاني الهجري- بمنظومة المرويات إلى حيث أصبحت، كالقرآن، من الوحي. ولقد بلور استراتيجيته في التعالي بها من خلال إدخالها جميعاً تحت مظلة ما قال إنها السنّْة التي اتسعت عنده ليس فقط للمرويّ- أو المحكيّ- عن النبي الكريم، بل- وهو الأخطر- لغير المرويّ عنه مما أجمع عليه الصحابة ولم يحكوه عنه. حيث اعتبر أن إجماع الصحابة على شىء لا يمكن أن يكون على رأيٍ من أنفسهم، بل إنهم يُجمِعون على مأثورٍ للنبي لم يُحك عنه، وبقيَّ فقط إجماعهم عليه. وغنيٌّ عن البيان أن إدخال الشافعي لإجماعات الصحابة وتوافقاتهم في السنّة- وذلك فضلاً عن إقراره بحجية «خبر الواحد»- كان هو الباب الذي منه بدأت أراء البشر واجتهاداتهم وانحيازاتهم في الدخول إلى صميم الدين.

ومن حسن الحظ أن الصحابة أنفسهم، وعلى فرض حصول الاتفاق بينهم، قد ألحوا على تأكيد أن اجتهاداتهم ليست ديناً واجب الإلزام؛ وبما يعنيه ذلك من عدم اتفاقهم مع ما صار إليه الشافعي من اعتبار اجتهاداتهم ديناً مُلزماً. وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن الطريق قد أصبح مُمهَداً لاعتبار الاجتهاد البشري الخاص بأجيال المسلمين في القرون المُفضلة (الثلاثة) الأولى (صحابة وتابعين وتابعي التابعين) جزءاً من الدين؛ وبما انفتح معه الباب لاحقاً أمام ممارسات البشر واجتهاداتهم على العموم لتصبح جزءاً من الدين.

وإذ كان من المنطقي أن تتجاوب هذه الممارسات والاجتهادات، التي أصبحت جزءاً من الدين، مع ظروف واحتياجات وأخلاقيات الناس في لحظةً بعينها، فإن تحويلها إلى دين كان يفك روابطها مع ظروف اللحظات التي تبلورت فيها، ويحيلها إلى أحكامٍ مُلزمة للناس على مدى الأزمان؛ وبما جعل منها قيوداً على الأجيال اللاحقة رغم محدودية وركاكة ما تنطق به أحياناً.حيث بدا أن بعضاً من هذه الاجتهادات والممارسات قد انطوى؛ ليس فقط على ما يُعاكس جوهر الدين، بل وعلى ما يُسئ إليه، وبما بدا معه أن الدين نفسه، وليس واقع الناس ووعيهم، في مسيس الاحتياج إلى تحرير الدين من هذه الممارسات التي دخلت فيه، وهي أقرب إلى الإساءات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف