رغم الصدمة الهائلة فى مستويات أداء البرلمان الجديد فإن شيئا جوهريا اختلف عما سبقه.
لم يعد ممكنا استنساخ نفس الأدوار التى لعبها رجال متمرسون مثل «كمال الشاذلى» بأسماء جديدة ولا العودة إلى قواعد السيطرة التى تقوضت بعد «يناير».
الاستنساخ وهم كامل يدفع ثمنه مبكرا ما يسمى بائتلاف الأغلبية فى مجلس النواب.
فشله الذريع فى حسم معركة وكيل المجلس الثانى، يوحى بتفككه التنظيمى الفادح واحتمالات انهياره من داخله.
أسوأ استنتاج ممكن الحديث عن الحاجة إلى «شاذلى» جديد يضبط الأداء النيابى، وفق ما يصدره من تعليمات بإشارة من يده.
لسنوات طويلة دأبت صحف المعارضة على وصف «الشاذلى» بـ«ناظر المدرسة».
وهو دور كان هناك دوما رجال آخرون متأهبون للعبة بدرجات مختلفة من كفاءة الأداء.
كانت «فرضية الناظر» من طبيعة النظام السياسى الذى ابتدع صيغة معدلة من «الحزب الواحد».
لم يكن مسموحا لأحزاب المعارضة الرئيسية التطلع إلى أى تداول للسلطة، فالحكم للأبد والمعارضة للأبد.
لهذا الغرض تكفلت الأجهزة الأمنية باختراق الحياة الحزبية وتفريغ حيويتها من أية قدرة على اكتساب ثقة الرأى العام.
ينبغى الالتفات هنا إلى أن الأمن، رغم تدخلاته الفادحة فى العمل الحزبى قبل «يناير»، لم يكن يتصدر المشهد على ما يجرى الآن وفق شهادات متواترة.
الظاهرة تجاوزت السرية إلى العلنية وباتت موضوعا للسجال العام على شاشات الفضائيات وعبر شبكات التواصل الاجتماعى وفى الكلام المباح داخل البرلمان نفسه.
بيقين الأمن هو الخاسر الأكبر فى تلك اللعبة الجديدة.
فهو ليس بديلا عن السياسة وتجاوز مهامه الطبيعية ينال من قدرته على أداء أدواره المكلف بها دستوريا.
السياسة تعنى القدرة على صنع التوافقات العامة.
وهذا ليس من طبيعة العمل الأمنى.
بمعنى آخر التدخل مشروع إرباك للبرلمان والأمن معا.
وقد كشفت الصور الأولى للبرلمان الجديد درجة تفلت غير مسبوقة فى الأداء العام.
فى (١٨) دقيقة تلت صعوده إلى منصة البرلمان كرئيس منتخب ردد الدكتور «على عبدالعال» كلمة «لوسمحت» (٦٦) مرة فى محاولة شبه يائسة للسيطرة على الفوضى الضاربة تحت القبة.
أفلتت عبارات لا تصح أن تصل إلى البيوت وجرت تعليقات دون حق على زى النائبات وبدا المشهد كله كـ«سيرك ريفى».
بالنسبة لبلد يقول للعالم إنه انتهى للتو من الاستحقاق الأخير فى خريطة الطريق فإن الأمر يبدو مخجلا.
لابد أن نعترف بأن المسئولية الأولى عن المشاهد التى صدمت الرأى العام يتحملها الذين هندسوا القوانين المنظمة للانتخابات النيابية لإضعاف الأحزاب وزيادة نسبة نواب الخدمات والعصبيات.
والمسئولية الثانية تقع على الذين جففوا المجال العام وأصابوا قطاعا لا يستهان به من المصريين بما يشبه اليأس من أى تغيير.
رغم ذلك فإن بعض الوجوه فى البرلمان تبشر بشىء مختلف، بطبقة سياسية جديدة محتملة تحتاج إلى وقت لازم لاكتساب الثقة وإلى قواعد تحترم لممارسة أدوارهم الدستورية.
فى أية صور سياسية مهما كانت عشوائيتها هناك دائما وجه آخر.
تصدع ائتلاف «دعم مصر» يشجع على تأسيس ائتلافات أخرى، وهذه خطوة لا يصح التقليل من أهميتها.
هناك بحث عن صيغة تنسيق تجمع أحزاب «الوفد» و«المصريين الأحرار» و«المؤتمر» وبعض المستقلين.
فى الحالتين تغيب التصورات والبرامج والرؤى التى تحكم الأداء المشترك فى البرلمان.
وهذا من تبعات تغييب السياسة.
ائتلاف الموالاة أقرب إلى تجمعات المصالح بلا خطة عمل باستثناء دعم السلطة التنفيذية وسياساتها.
والتنسيق المحتمل الآخر يلتزم بذات الدعم السياسى للرئيس دون أن يتعداه إلى غيره من كبار المسئولين التنفيذيين.
بمعنى آخر فإن احتمالات قصف الحكومة مرجحة للغاية بلا أدنى حماية يعتد بها.
سوف تجد الحكومة الحالية التى لم يعهد عن وزرائها العمل بالسياسة نفسها فى العراء البرلمانى.
غياب أية خبرات سياسية عن الحكومة مأساة كاملة.
وغياب كتلة أغلبية تشارك الحكومة نفس التوجهات والسياسات مأساة أخرى.
وغياب كتلة معارضة لها برامج معلنة تؤيد وتعارض على أساسها مأساة ثالثة.
عدا ائتلاف «العدالة الاجتماعية» وبعض المستقلين لا توجد معارضة فى البرلمان.
بتلخيص ما الحكومة لعبة البرلمان.
وبتلخيص مشابه البرلمان لعبة الإعلام.
المعضلة فى الصدامات المتوقعة أنه لا توجد قواعد.
فلا الحكومة تدرك وظيفتها الدستورية فى صناعة السياسات العامة مع الرئيس ولا بوسعها بطبيعة تكوينها مغادرة دور السكرتارية.
ولا البرلمان بتشكيله قادر على أن يمارس صلاحياته الواسعة المنصوص عليها فى الدستور ولا إقناع الرأى العام بأنه يلتزم الفصل بين السلطات.
ولا الإعلام تنضبط تصرفاته على قوانين حديثة تتفق مع النص الدستورى والفوضى تضرب جنباته بصورة أساءت إلى سمعته على نحو قاس.
فى فوضى القواعد وغياب أى احترام للدستور تطرح الأسئلة نفسها على المستقبل المنظور:
كيف تتصرف حكومة «شريف إسماعيل» التى تفتقر أية خبرة سياسية أمام برلمان عشوائى بلا كتلة أغلبية تسند أو كتلة معارضة تدرك ما يطرح أمامها وتعرف أين تختلف؟
تبدت مقدمة الصدامات المحتملة فى لجنة القوى العامة التى قررت عدم الموافقة على قانون الخدمة المدنية فى حضور الوزير «أشرف العربى» الذى أشرف على إقراره.
رغم كفاءة «العربى» المهنية إلا أنه أعلن ذات مرة فى حكومة الدكتور «حازم الببلاوى» أنه لا شأن له بالسياسة.
دون تأهل يجد نفسه فى اختبار سياسى.
الأمر نفسه ينصرف إلى الوزراء الآخرين.
فى تكنوقراطية الحكومة مشروع اهتزاز فادح بصورتها ومستويات قدرتها على إقناع الرأى العام قبل نواب البرلمان.
لا «شاذلى» جديد.
هذا عهد قد انقضى ولا سبيل إلى عودته.
فهو يناقض أى نزوع للديمقراطية والتعددية وقواعد الدستور.
القاعدة الدستورية تفترض أن تكون هناك كتلة أغلبية طبيعية لا مصطنعة تشكل الحكومة وتسندها تحت البرلمان وفق برامج مشتركة.
بخسارة الأغلبية يطاح بالحكومة.
أما حشد النواب بعصا السلطة إلى ائتلاف بلا رؤية مشتركة فهو أقرب إلى خوض حرب فى القرن الحادى والعشرين بأسلحة القرون الوسطى.
الاندحار سريع ومؤكد.
بذات القاعدة الدستورية فإن نظام الحكم يقوم على التعددية الحزبية وتداول السلطة.
المعنى أن الضيق بالمعارضة هو ضيق بالديمقراطية والدستور وكل ما له صلة فى هذا البلد للتطلع إلى بناء دولة حديثة.
وهذه مسألة تتعلق بالشرعية الدستورية.
لن يستقيم شىء فى هذا البلد ما لم يكن الطريق واضحا لبناء دولة حديثة لا استدعاء ائتلافات بوسائل نظام أسقطه شعبه فى ثورة شعبية.