الوطن
ثروت الخرباوى
التوبة المزيفة
تتذكرون كلكم المشهد التمثيلى الرائع الذى جمع بين العملاقين زكى رستم وفريد شوقى، فما إن هم الصول فريد شوقى بالقبض على المجرم زكى رستم حتى قام هذا الأخير برفع يديه بنية التكبير للدخول فى الصلاة، لكن فريد شوقى فطن لخدعة التدين المزيف لزكى رستم فقطع عليه الطريق وقبض عليه، وتتذكرون كلكم المقولة الشهيرة التى تتحدث عن الغبى بأنه: هو من يقوم بتكرار الشىء نفسه ويتبع الخطوات نفسها وينتظر نتائج مختلفة!

وأظن أن المشهد التمثيلى الذى فطن إليه فريد شوقى قد ينطلى علينا، كما أن المقولة المتعلقة بالغبى قد تنطبق علينا إن قبلنا ما يقوم به بعض شباب جماعة الإخوان فى السجون من التوقيع على إقرارات يزعمون فيها أنهم تابوا عن أعمال العنف والإرهاب التى مارسوها وأنهم تركوا جماعة الإخوان إلى غير رجعة، أما لماذا هذا الاستهلال؟ فذلك لأننا أمام حالة من حالات تكرار التاريخ لنفسه، لدرجة أن الصورة القديمة نفسها تتكرر بشكل مذهل مع اختلاف بسيط فى بعض الرتوش.

ففى منتصف الستينات كان الإخوان يملأون السجون بعد العديد من الجرائم التى ارتكبوها فى حق الشعب المصرى، وعندما مرت الأيام والأحداث أخذت الروح المعنوية لهم فى الانهيار، ففكر بعضهم فى كتابة إقرارات يعتذرون فيها عن أخطائهم ويبدون فيها الندم على انخراطهم فى تنظيم إرهابى! وعُرض الأمر من الإخوان على مرشدهم حسن الهضيبى الذى كان سجيناً فى ليمان طرة، فقال إنه يجيز كتابة هذا الإقرار من كل الإخوان ما عدا القيادات، وكان تبريره لذلك إن أى إقرار من أى عضو عادى فى الجماعة لن ينصرف إلى الجماعة نفسها لكنه سينصرف للشخص ذاته الذى وقَّع على الإقرار، أما القيادات الكبرى كالمرشد نفسه فلا يجوز له أن يوقع على أى إقرار اعتذار لأن التاريخ سيكتب آنذاك أن جماعة الإخوان نفسها اعتذرت، والجماعة لا تعتذر لأنها مبرأة من الخطأ، فقرار الجماعة أياً كان هو قرار الله، إذ يد الله مع الجماعة!

وأخذ العشرات ثم المئات فى كتابة إقرارات الاعتذار وترتب على ذلك أن نظام الحكم آنذاك أخذ يعيد النظر فى ملفات هؤلاء وتم الإفراج عن مئات منهم، وكان من ضمن المفرج عنهم شاب كان قد تم اعتقاله وهو طالب فى كلية الزراعة، وصدر قرار الإفراج عنه فى أواخر عام 1969، وخرج هذا الشاب ليبدأ خطواته الأولى فى تكوين أسوأ جماعات العنف فى السبعينات، كان هذا الشاب هو شكرى مصطفى الذى أنشأ جماعة التكفير والهجرة التى قامت باغتيال الشيخ الذهبى وزير الأوقاف لأنه تصدى لأفكارهم الشيطانية، ومن تحت معطف هذه الجماعة تكونت فيما بعد جماعات أخرى أشد تطرفاً وأكثر عنفاً، أما باقى الشباب الذين وقعوا على إقرارات التوبة التى أقسموا فيها على ترك الجماعة للأبد فسرعان ما عادوا إليها بعد أن جاء عهد السادات، وكانوا هم أكثر الشخصيات الإخوانية الداعية للعنف والمتبنية لفكرة قتال المجتمع.

وفى التسعينات حينما كانت جماعات العنف فى السجون رأى البعض أن يقوم بعمليات فرز بين المسجونين المتطرفين، فقدم بعضهم مبادرات للمراجعات الفكرية لقادة الإرهاب فى السجون، وأخذ شيوخ الأزهر يجرون حوارات مع الإرهابيين المسجونين، ونقلت التليفزيونات ندوات السجون، واستبشر الجميع الخير، وقلنا لعل هذه المراجعات تكون النهاية الحقيقية لفكرة العنف المتأسلم، وانتهت هذه الحوارات بإقرارات من تلك الجماعات قالوا فيها إن قتل السادات كان مخالفاً للإسلام! وإن السادات بهذه المثابة قد مات شهيداً، وإنه لا يجوز لنا أن نكفر الآخرين لمجرد الخلاف فى الرأى، ووقعت قيادات الجماعات الإرهابية على مبادرات المراجعة، وبدأت إدارة الدولة فى الإفراج التدريجى عن بعض الأفراد وقليل من القيادات، إلى أن قامت الثورة المصرية فى يناير وترتب على هذه الثورة أن تم الإفراج عن كل الإرهابيين الذين كانوا فى السجون.

وحين مرت علينا الأحداث وجدنا أن معظم من قام بالتوبة والإقرار بالعدول عن أفكاره التكفيرية إنما كان يمارس التقية معنا، أى يظهر أمام الناس شيئاً ويخفى فى باطنه غول التكفير البشع، وذهب الكثيرون من هؤلاء إلى سيناء ليقيموا هناك أكبر بؤرة إرهابية فى تاريخ مصر كلها، أما باقى التكفيريين من القيادات الكبرى فقد ظهر انتماؤهم الحقيقى لجماعة الإخوان، اتضح لنا أن المسألة كانت مجرد توزيع أدوار ليس إلا، فكان أن شهدنا احتفال الإخوان وهم فى الرئاسة بعيد السادس من أكتوبر وجلوس الذين قتلوا الرئيس السادات فى مقصورة الاحتفال، ورأيناهم وقد اجتمعوا فى احتفال من احتفالات مرسى حيث قام أحدهم بالدعاء على الشعب المصرى وقام الباقون بالتأمين على هذا الدعاء بمن فيهم محمد مرسى، وعلى منصة رابعة العدوية وجدناهم جميعاً وقد اجتمعوا ليمارسوا أبشع ما يمكن من العنف والإرهاب وقطع الطريق وتخريب مؤسسات الدولة، وعرف الناس أن إقرارات التوبة هذه كانت مجرد لغو لم توافقه نية صحيحة، فالتكفير آفة تمكنت من هؤلاء، وهى تنمو وتزدهر فى البيئة الصالحة لها، وقد كان حكم الإخوان هو أفضل بيئة لأفكار التطرف والإرهاب.

وفى هذه الأيام إذا ببعضهم يتحدث عن أن شباب الإخوان فى السجون يقومون بالتوقيع على إقرارات توبة وندم، آملين أن يتم الإفراج عنهم بسبب هذه الإقرارات، ويقينى من واقع خبرتى أن هذه الإقرارات لا تمثل مراجعة حقيقية، بل هى مجرد محاولة ساذجة للإفلات من السجن، حتى إن الصادق منهم إنما هو مجرد رافض لطريقة قيادات جماعته فى إدارة الأزمة.

لكن الأفكار التكفيرية التى تغذى عليها عبر السنوات الماضية لا تزال هى هى، إذ لم يحدث للآن أى مواجهات فكرية وفقهية لهم، ولم يذهب العلماء لهم فى السجون لمناقشتهم فى عقيدتهم التكفيرية، ولم يكتب واحد منهم أى مراجعات فقهية معتبرة نستطيع من خلالها إحسان الظن بهم، وأظن أن الحكومة لو وافقت على هذه الإقرارات وقامت بالإفراج عن هؤلاء سيظهر لنا فى المستقبل القريب جماعة أشد تطرفاً، تكون صورة طبق الأصل من جماعة التكفير والهجرة، بل أشد وأنكى وأكثر وحشية وضراوة، فهل تنتبه الحكومة لخطورة الإخوان حتى وهم فى مرحلة الاستضعاف؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف