الصباح
وائل لطفى
عملية تحويل هشام جنينة إلى شهيد مكافحة الفساد
>>الذين هاجموا هشام جنينة اتسم أداؤهم بالعصبية والانفعال ووقعوا فى الفخ الذى نصبه الرجل لهم
>>كل رؤساء الجهاز حافظوا على سرية بياناته ماعدا رئيسه الأخير الذى استخدم الإعلام كسلاح يضمن بقاءه
>>اثنان من رؤساء الجهاز شغلا منصب نائب رئيس جمهورية واثنان شغلا منصب رئيس الوزراء
>>قانون تأسيس الجهاز ينص على أنه تابع لرئاسة الجمهورية ويُعين مجلس النواب فى أداء وظائفه الرقابية ورئيس الجهاز تمرد على دوره التاريخى
>>كان يجب على لجنة تقصى الحقائق أن تصيغ تقريرها دون هجوم وبلغة موضوعية وأن تترك محاسبة الرجل لمجلس النواب

يقول المثل المعروف «عدو عاقل خير من صديق جاهل»، وتقول قراءة الوقائع إن الدولة فى مصر تملك الآلاف من الأصدقاء الجُهال.
على سبيل المثال كان المستشار هشام جنينة حتى أول الأسبوع الماضى مجرد موظف كبير فى الدولة ينتظر الإحالة للمعاش بعد بضعة شهور، لكنه تحول بفضل المبالغة فى الانفعال والعصبية فى رد الفعل إلى شهيد مكافحة الفساد!
فمن المسئول يا ترى عن تحويل موظف ربما يكون لا يؤدى واجبات وظيفته كما ينبغى إلى رمز لمكافحة الفساد تريد الدولة التنكيل به.. ولماذا؟ لأنها تتستر على الفساد.
مبدئيًا فالرجل يملك ميولًا استعراضية لايمكن إنكارها، وهو أيضًا يملك من الذكاء ما يجعله يستخدم الإعلام كطرف فى معاركه، وهو يتمترس خلف الرأى العام للبقاء فى موقعه بحيث تصبح الإطاحة به عقابًا على كشفه للفساد...
لكن الحقيقة أن الطريقة التى أدير بها الهجوم عليه جعله فى موقع الرابح، وحقق له ما أراد بالضبط، ودون أى تجنٍ يمكن القول أن الرجل لا يفهم فلسفة الجهاز الذى يرأسه، والذى ينص قانون تأسيسه على أن يكون تابعًا لرئاسة الجمهورية، وأن يعاون مجلس الشعب فى أداء وظيفته الرقابية، والمعنى أن الجهاز هو عين رئيس الجمهورية التى ترى الفساد أو القصور فى هيئات الدولة المختلفة،
ولعقود طويلة حافظ رؤساء الجهاز على البقاء فى إطار من السرية والكتمان لا يعرفها الرأى العام، ولا تصل إلا للمسئولين المعنيين، وهى القاعدة التى كسرها هشام جنينة عن وعى.. للدرجة التى يمكن معها القول بأنه حوّل علاقته بالإعلام والرأى العام إلى فخ استدرج إليه من يريدون الإيقاع به.. ولعله نجح إلى حد كبير.
من جهة أخرى لا يمكن فصل الماضى عن الحاضر، والماضى يقول إن هشام جنينة واحد من رموز تيار استقلال القضاء، وهى مجموعة عرفت طريقها للشهرة فى عصر مبارك، وتحالف معها الإخوان بعد وصولهم للحكم، وعينوا أحدهم فى منصب نائب رئيس جمهورية، وعينوا الثانى فى منصب وزير العدل، وعينوا الثالث رئيسًا للجهاز المركزى للمحاسبات.. لكن هذا ليس مبررًا لاتهام الرجل بأنه إخوانى، أولًا لأنه لم ينتم تنظيميًا للإخوان، وثانيًا لأن الاتهام سيطرح سؤالًا منطقيًا عن سر الإبقاء عليه بعد ثورة 30 يونيو، وسيكون لسان حال المتسائل..إذا كانت الثورة قد أطاحت برئيس الجمهورية الإخوانى، وبكل عصابة الإخوان من الحكم، فهل صعب عليها الإطاحة برئيس جهاز المحاسبات الإخوانى ؟
أما المبرر الثالث لتهافت الادعاء بأن الرجل إخوانى فهو أن الأمر سيبدو وكأن الاتهام صدر من أصحابه بعد حديث الرجل عن الفساد!! وكان أولى بهم أن يطلقوا الاتهام قبل أن يتحدث الرجل حديثه الأخير لا بعد أن يتحدث !
دون شك فإن هناك نوعًا من المبالغة تكشف عن عصبية مبالغ فيها سواء من الذين تحركوا ضد الرجل بكل هذه المبالغة، أو من المسئولين الذين أذاهم خروج الرجل عن التقاليد التى التزم بها أسلافه أو من عدم دقته فى عرضه لقضية الفساد فى مصر، أو حتى من سوء نيته فى إذاعة التقرير فى هذا التوقيت بالذات.
كان يكفى أن ترد لجنة تقصى الحقائق التى شكلها الرئيس على تقرير هشام جنينة بالحقائق التى اكتشفتها وبالأدلة التى جمعتها تاركة محاسبة الرجل لمجلس النواب، لكن اللجنة صاغت تقريرًا هجوميًا اتهمت فيه جنينة بخمسة توجب محاسبته جنائيًا حيث شملت الاتهامات، التضليل وفقدان المصداقية، والإغفال المتعمد، والمغالطة، وإساءة استخدام كلمة الفساد !
ورغم إننى مقتنع تمامًا بالحقائق التى أوردها تقرير لجنة تقصى الحقائق إلا أننى لم أكن أحب أن يصاغ بهذه الطريقة الانفعالية والهجومية التى أوحت بتوجه معين وأفادت هشام جنينة من حيث أرادت أن تضره، وحولته - فى حالة محاسبته - إلى شهيد لمكافحة الفساد.
تقرير اللجنة استدعى بالطبع هجومًا إعلاميًا كاسحًا على الرجل فى وقت بات فيه الرأى العام لايؤمن كثيرًا باستقلالية وسائل الإعلام، والأهم أن الهجوم الإعلامى الكاسح لم يذكر الناس أن مكافحة الفساد هى بالفعل من أهم أولويات الدولة فى عهد الرئيس السيسى، بحيث بدا الهجوم على مبالغات هشام جنينة وكأنه هجوم على فكرة محاسبة الفساد نفسها، ولعل هذا هو الفخ الذى نجح هشام جنينة بذكاء فى أن يوقع فيه مهاجميه.
ومع الهجوم الإعلامى كان الأداء السياسى المفتعل لبعض أعضاء مجلس النواب وجمع التوقيعات لإحالة الرجل للنائب العام، فى حين أن المنطق يقول إن محاسبة الرجل تكون أمام مجلس النواب نفسه خاصة أن دور الجهاز هو مساعدة المجلس فى أداء وظيفته الرقابية، وهكذا بدا أمام قطاع من الرأى العام وكأن المجلس يضيق ذرعًا بالرجل الذى يساعده فى كشف الفساد.
لقد أديرت المعركة ضد هشام جنينة بطريقة خاطئة، ولم يستطع مهاجموه التفرقة بين الغضب من مبالغاته، وبين التأكيد على حرص الدولة على محاربة الفساد وهو المعنى الذى كان يجب على بيان لجنة تقصى الحقائق التأكيد عليه، تمامًا كما كان يجب عليها أن تصيغ بيانها بطريقة موضوعية تخلو من الهجوم المباشر وتترك الحكم للرأى العام ولمجلس النواب، كما كان على البيان نفسه أن يعلن الرقم الحقيقى للمال الذى يتم إهداره فى هيئات الدولة المختلفة، بمعنى أن نقول إن رقم الستمائة مليار رقم كاذب وأن الرقم الحقيقى هو كذا.
لكن الجميع وقعوا فى فخ هشام جنينة، وهى نتيجة طبيعية لنقص السياسة فى مصر.
***
ربما كان هشام جنينة الرئيس رقم 16 للجهاز المركزى للمحاسبات هو أكثر رؤسائه إثارة للجدل، وإن لم يكن أرفعهم من ناحية التاريخ السياسى أو المناصب التى تولاها، ولعل المفارقة أن أول رئيس للجهاز قد تم اغتياله! وإن كان الاغتيال لم يكن له علاقة بدوره كرئيس لجهاز المحاسبات التى كان يحمل وقتها اسم ديوان المحاسبة، والذى صدر بتأسيسه مرسوم ملكى فى عام 1942 ليصبح أول رئيس له هو أمين عثمان باشا الذى تولى رئاسته لمدة عام واحد، وترك الجهاز فى عام 1943 ليعين وزيرًا للمالية، ويخرج من منصبه عام 45، ثم يتم اغتياله فى يناير 46 على يد أعضاء مجموعة قيل إن لها علاقة بالحرس الحديدى وتولى تدريبها الرئيس أنور السادات.
وإذا كان أمين عثمان هو رئيس الجهاز الوحيد الذى انتهى مصيره بالاغتيال فقد كان رئيسه السابع زكريا محيى الدين على موعد مع نوع آخر من الاغتيال هو الاغتيال السياسى، وإن كان ذلك قد تم أيضًا لأسباب لا علاقة لها برئاسته للجهاز المركزى، والذى تولاه لعام واحد من 1964 وحتى 1965، وقد كانت رئاسة الجهاز محطة عابرة فى حياة سياسية ممتدة لرجل بدء حياته عضوًا فى مجلس قيادة الثورة، وأسس جهاز المخابرات العامة، وعمل رئيسًا للوزراء، ثم نائبًا لرئيس الجمهورية، وإن كانت لعنة السياسة قد طاردته حين رشحه الرئيس عبد الناصر بديلًا له فى أزمة التنحى الشهيرة، وهو ما رفضته الجماهير بالطبع.. ليترك بعد شهور موقعه كنائب لرئيس الجمهورية ويلزم نفسه بنوبة صمت طويلة وعزلة فى عزبته الخاصة بالقليوبية، وهو الصمت الذى استمر حتى رحيله فى بدايات القرن الحالى.
ولم يكن زكريا محيى الدين هو نائب رئيس الجمهورية الوحيد الذى تولى رئاسة الجهاز حيث تولاها عضو آخر من أعضاء مجلس قيادة الثورة هو حسين الشافعى وكان الرئيس الثامن له، وشغل المنصب فى الفترة من 1965 وحتى 1971، وقد تولى الشافعى رئاسة الجهاز، وهو نائب لرئيس الجمهورية بالفعل حيث عينه عبد الناصر نائبًا له عام 1963، وتركه السادات فى منصبه حتى عام 1974، ومن الواضح أن الدولة كانت تتعامل وقتها مع رئاسة الجهاز على أنها مهمة سياسية لا فنية.
رئيس الجهاز بعد حسين الشافعى لم يكن مجهولًا على المستوى السياسى لكنه كان رئيس وزراء سابق يشار له بالبنان، وهو المهندس محمد صدقى سليمان رجل الثورة القوى ووزير السد العالى ورئيس وزراء مصر عام 1966، وهو أيضًا ضابط مهندس تدرج فى العديد من المناصب فى دولة يوليو والقطاع العام، وعينه الرئيس السادات خلفًا لحسين الشافعى فى رئاسة الجهاز.
وإذا كان عزيز صدقى قد تولى الجهاز بعد أن ترك رئاسة الوزراء فقد رئاسة الجهاز هى طريق د.عاطف صدقى للحكومة حيث تولى الرجل منصبه كأستاذ محاسبة مشهود له بالكفاءة، وكان الرئيس الحادى عشر للجهاز، ويقال إن أداءه فى رئاسة الجهاز أعجب الرئيس الأسبق مبارك الذى اختاره لرئاسة الوزراء عام 1986 بعد أن قضى خمس سنوات فى المنصب، وكان أول رئيس للجهاز فى عهد مبارك.
وباستثناء المستشار جودت الملط الذى حقق قدرًا كبيرًا من الشهرة والسمعة الطيبة فى المنصب، وإن لم يتول أى مناصب سياسية فى أعقابه بقى رؤساء الجهاز الآخرون عدا من ذكرناهم فى إطار الوظيفة التقليدية ولم يشتبكوا مع الرأى العام، وفى الحصر النهائى فقد مر على الجهاز نائبان لرئيس الجمهورية، ورئيسان للوزراء، ووزير تم اغتياله، فماذا يكون مصير آخر رؤساء الجهاز وفى أى طريق سيسر به المستقبل ؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف