الواقعتان حدثتا فى توقيت متقارب يسمح بالمقارنة. النائب السكندرى المخضرم كمال أحمد هاله ما شاهده فى الجلسة الأولى لمجلس النواب، فقدم استقالته من المجلس. إذ أبت عليه نفسه أن يكون شريكا فيما وصه «بالسيرك»، وهو صاحب التاريخ البرلمانى الطويل، (مثل دائرته بالإسكندرية ثلاث مرات) فاختار أن يغادره. الواقعة الأخرى أبطالها أعضاء المجلس القومى لحقوق الإنسان الذين قاموا بزيارة سجن العقرب سيئ السمعة. ذلك أن إدارة السجن رفضت السماح لإحدى عضوات المجلس (المحامية راجية عمران) بالدخول بحجة أن اسمها لم يدرج ضمن الذين منحوا التصريح. وكانت تلك أول إهانة للوفد الذى ابتلعها. فتركوا زميلتهم على الباب ودخلوا إلى السجن. فى الداخل طلبوا زيارة الزنازين فرفض طلبهم. وكان أحدهم طبيبا فطلب الكشف على أحد المرضى فرفض طلبه. وحين طلب الاطلاع على التقارير الخاصة به، فإن طلبه رفض أيضا. طلبوا لقاء بعض الأشخاص الذين اشتكى أهلوهم من معاناتهم داخل السجن، فقيل لهم إنهم رفضوا مقابلتهم. وحين غادروا وأجروا اتصالاتهم بالأهالى ليتحروا عن سبب رفض مسجونيهم لقاء أعضاء المجلس، كان الرد أن ذويهم لم يبلغوا بالطلب وليس لديهم علم بالموضوع. وكان واضحا أن الداخلية رفضت أن تسمح لأعضاء الوفد بمقابلتهم وتذرعت بأن الرفض جاء من جانب المسجونين وليس من جانب الداخلية.
هذه المعلومات لا أملك دليلا على صحتها، لكننى اعتمدت فى إيرادها على شهادة القيادى العمالى كمال عباس عضو المجلس القومى الذى كان ضمن الوفد. وكان موقع البداية قد نقل هذه التصريحات يوم ١٣/١ وتداولتها مواقع أخرى، ولم تكذبها وزارة الداخلية. خلاصة الكلام أن وزارة الداخلية تعاملت باستهانة بالغة مع ممثلى مجلس حقوق الإنسان وعرضتهم لسلسلة من الإهانات. لكن الجميع دخلوا وخرجوا دون أن يحققوا شيئا من مهمتهم. وغاية ما فعله بعضهم أنهم انتقدوا على استحياء الطريقة التى عوملوا بها.
لست فى وارد مناقشة التفاصيل، لأن الدلالة عندى هى الأهم. ذلك أن الواقعتين تسلطان الضوء على قيمة صرنا نفتقدها فى المجال العام. أعنى بذلك ظاهرة اختفاء الغضب المحمود فى أوساط الشخصيات العامة والمسئولين، وهو الذى يتبدى فى الدفاع عن الكرامة الشخصية أو المهنية والغيرة على المصالح العليا للوطن.
عرفنا قبل ثورة ١٩٥٢ مثل تلك الاستقالات. ومشهورة قصة استقالة أحمد لطفى السيد من وزارة المعارف فى الثلاثينيات احتجاجا على إقصاء حكومة إسماعيل صدقى باشا للدكتور طه حسين من الجامعة ثم على تدخل الشرطة فيها. واستقالة مصطفى مرعى فى الأربعينيات احتجاجا على سياسة رئيس الحكومة حسين سرى باشا، واستقالة محمود محمد محمود بك من رئاسة ديوان المحاسبات فى بداية الخمسينيات رافضا للضغوط التى مارسها القصر الملكى. لكننا منذ قيام الثورة لم نسمع إلا عن استقالة الدكتور حلمى مراد من وزارة التربية فى المرحلة الناصرية، واستقالة ثلاثة من وزراء الخارجية فى عهد السادات بسبب زيارة تل أبيب واتفاقية كامب ديفيد. والثلاثة هم السادة إسماعيل فهمى ومحمد رياض ومحمد إبراهيم كامل. فيما عدا ذلك، وخلال الأربعين سنة التالية لم نعرف أن مسئولا استقال من منصبه، الأمر الذى يستحق دراسة ومناقشة. وتكتسب تلك الدراسة أهمية خاصة لأن تلك الفترة شهدت تحولات غاية فى الأهمية فى السياسات الداخلية والخارجية، أزعم أنها أقرب إلى «الانقلابات». سواء فى العلاقات مع القوى الكبرى (من التحالف مع السوفييت إلى التحالف مع الأمريكان)، ومن العداء لإسرائيل إلى التصالح والتطبيع معها. ومن قيادة العالم العربى إلى الانكفاء على الشأن القطرى. ومن الاقتصاد الأقرب إلى الاشتراكى إلى الأقرب من الرأسمالى.. إلخ. خلال تلك العقود ظلت عناصر السلطة قابلة بكل ما يجرى، ومتكيفة مع كل التحولات والانقلابات التى تمت. أفتح هنا قوسا وأنبه إلى أن السيد كمال أحمد الذى استقال من البرلمان لم يكن موظفا حكوميا ومن ثم كان «سيد قراره» كما يقال. أما أعضاء مجلس حقوق الإنسان الذين تلقوا الإهانة وابتلعوها فهم معينون من قبل الحكومة وأغلبهم على الأقل روعيت فى اختيارهم مواصفات ترضى السلطة ووزارة الداخلية بوجه أخص، الأكثر احتكاكا بملف حقوق الإنسان ).
فى تفسير ظاهرة تكيف المسئولين مع كل الأجواء حتى إذا تناقضت تعـِّن لى عدة عوامل. الأول يتمثل فى موت السياسة وانغلاق المجال العام فى مصر خلال العقود الستة الماضية. الأمر الذى جعل المسئول يكتسب حضوره وأهميته السياسية والاجتماعية من التحاقه بالسلطة. من ثم أصبح ذلك الوجود يختفى تماما بمجرد خروجه من تلك الدائرة ــ الثانى أن البيروقراطية المصرية والأمنية فى مصر من القوة بحيث إنها أصبحت تتخير لمواقع السلطة أناسا بمواصفات معينة بينها المرونة والاستعداد للتجاوب مع كل الاتجاهات، فضلا عن أن النظم القانونية المعمول بها أصبحت تربط مستقبل المسئول بمدى الرضا على سلوكه السياسى وليس فقط كفاءته. الأمر الثالث أن التحاق المسئول بالسلطة يحوله من مواطن عادى إلى مواطن من الدرجة الأولى الممتازة. بمعنى أنه يغرقه فى بحر الغوايات ويغدق عليه الفرص والميزات التى تضعف مقاومته وتجعل من استقالته نوعا من الانتحار الاجتماعى فضلا عن السياسى. الأمر الذى يجعل كثيرين يحجمون عنه. فيحرصون على الاستمرار بأى ثمن حتى إذا كان ذلك على حساب الكرامة الشخصية والمهنية.. والله أعلم.