محمد نصر الدين
مفاوضات «النهضة» وموازين القوى (1-3)
الحكومة المصرية اختارت التفاوض للتعامل مع أزمة سد النهضة، وبلا شك أن المفاوضات من أفضل البدائل السلمية لحل الخلافات والنزاعات الإقليمية والدولية. ولكن هناك عدداً غير قليل من نخبة مثقفى مصر فى المياه والسياسة والاقتصاد والقانون، ومنهم أعضاء فى مجموعة حوض النيل المصرية، يرون أن أزمة سد النهضة ليست خلافاً أو نزاعاً بل تمثل حلقة جديدة من صراع تاريخى ممتد بين مصر وإثيوبيا حول مياه النيل. وترى هذه النخبة المصرية أن التفاوض مع استمرار بناء سد النهضة يجعل من الوقت سيفاً على رقاب المفاوضين المصريين ويمثل محدداً رئيسياً لطبيعة إدارة الأزمة ولكيفية التعامل معها. والحكومة المصرية تصر على أن أزمة سد النهضة لا تزيد عن كونها خلافاً أو نزاعاً من الممكن التعامل معه بالتفاوض والثقة والنيات الطيبة. ولكن النخبة المصرية المعارضة لهذا التوجه تزعم أن عملية التفاوض الحالية لا تصلح لحل هذا الصراع السياسى ودليلها فى ذلك انقضاء أربع سنوات متتالية من التفاوض دون الوصول إلى نتيجة ملموسة وسد يرتفع بنيانه سنة وراء أخرى. وقد تزايد تصميم الحكومة على رؤيتها حتى وصل إلى أن صرحت على لسان وزير الرى بأن التفاوض هو السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة، مجرداً مصر طواعية من جميع أدواتها وخياراتها الأخرى.
ونجاح المفاوضات يتطلب الإعداد الجيد لها لتحقيق توافق بين أطراف النزاع حول عدة أساسيات، أولها الاتفاق حول الهدف من المفاوضات والمخرجات المتوقعة منها، وثانيها اتفاق أطراف النزاع على الإطار العام للبدائل التى سيتم طرحها لحل النزاع. وبدائل الحلول غالباً ما تعكس قوى الأطراف المتفاوضة، فالطرف الأقوى غالبا ما يكون أكثر تأثيراً فى تحديد بدائل الحلول محاولاً ترجيح كفته فى حل النزاع. أمّا إذا كان هناك تباين كبير ما بين قوى أطراف النزاع، فلن تصلح المفاوضات لأنها فى الأغلب ستتحول إلى إملاءات، وعلى الأغلب لن يوافق الطرف الأقوى على التفاوض من أصله. وإجراءات التفاوض فى حد ذاتها عملية ديناميكية كل مرحلة تؤسس خطواتها على نتائج المرحلة التى تسبقها، مع العمل الدؤوب على تقريب وجهات نظر الأطراف المتنازعة بغية التوصل إلى حل وسط يحقق مكاسب نسبية لجميع أطراف النزاع. ويزيد من فرص نجاح المفاوضات وجود طرف قوى ومحايد (مستقل) على مائدة المفاوضات لترجيح الرأى الأصوب ويكون قادراً على الضغط على الخصوم لتقريب وجهات النظر والوصول إلى حل يتوافق عليه الجميع. وفى ضوء هذا الإطار لمفهوم وأسس المفاوضات، سنحاول فى هذه السلسلة من المقالات تفسير الكثير من غموض وأحداث ونتائج مفاوضات سد النهضة، وتقييم مدى توافق الأطراف حول الهدف من المفاوضات، واستعراض البدائل التى طرحت لحل أزمة السد. وفى هذا المضمون سيتم تحليل توازنات قوى أطراف النزاع خاصة مصر وإثيوبيا، مع رصد تغير هذه التوازنات خلال المراحل الزمنية المختلفة للتفاوض وتأثير ذلك على الإجراءات والنتائج. ومن نتائج تحليل وتقييم المسار التفاوضى، قد نستطيع تقييم فرص نجاح الفكر الحكومى التفاوضى بالمقارنة بالفكر الاستراتيجى للنخبة المصرية وترجيح الفكر الأصوب لاحتياجات المرحلة الدقيقة المقبلة، هذا إذا كان هناك وقت أو فرص متاحة للخيار.
إن مفاوضات سد النهضة يمكن تقسيمها أو تصنيفها إلى ثلاث جولات مختلفة ومتباينة، الأولى بدأت عام 2011 وبعد شهور قليلة من تاريخ وضع حجر أساس السد، ووقتها كانت إثيوبيا فى أزهى حالاتها الاقتصادية والسياسية، أما مصر فقد كانت تعيش فى أصعب ظروفها الداخلية والخارجية. وقد انعكس هذا الخلل فى ميزان القوى على صياغة المذكرة الثلاثية الخاصة بإطار التفاوض بين مصر والسودان وإثيوبيا، والتى صبت فى صالح الجانب الإثيوبى بشكل صارخ. تنص المذكرة على أن سد النهضة تحت الإنشاء، ولم يكن وقتذاك تم بناء طوبة واحدة فى جسم السد، ووافقت مصر على هذه الصيغة التى تعنى الموافقة على إجراء المفاوضات فى ظل إنشاءات مستمرة للسد. ونصت المذكرة على أن الهدف من تشكيل اللجنة هو فقط مراجعة وتقييم الدراسات الإثيوبية لسد النهضة، بدلاً من أن تنص على إجراء الدراسات اللازمة لتقييم تداعيات سد النهضة على كل من مصر والسودان. وموافقة مصر على هذه الشروط المجحفة تفيد بقناعة قيادة البلاد وقتذاك بأنه ليس هناك خيار أفضل. وتكونت لجنة التفاوض من ممثلين فنيين عن كل دولة، بالإضافة إلى أربعة خبراء دوليين تم اختيارهم بالتوافق ما بين الدول الثلاث. واستغرقت هذه اللجنة الدولية عاماً كاملاً حتى أنهت مراجعاتها وتقييمها للدراسات الإثيوبية للسد فى 31 مايو 2013. وانتهت اللجنة إلى أن التصميم الإنشائى للسد غير آمن ومعرض للانهيار، وأن الدراسات المائية والبيئية غير مكتملة ولا ترقى إلى المستوى الدولى المطلوب، وأوصت بإعادة جميع الدراسات من خلال مكاتب استشارية دولية. وبعد انتهاء هذه الجولة من المفاوضات طلبت إثيوبيا من مصر عدم نشر محتويات تقرير اللجنة الدولية الذى يدين دراساتها المعيبة للسد، ومصر للعجب رضخت لطلب الحكومة الإثيوبية. وكانت مصر وقتها تحت حكم الإخوان، ولذلك فإننى أرى أن الاجتماع الرئاسى السرى المعلن وقتذاك وما جرى فيه من تهديدات واتهامات وأفلام أكشن، كان فقط تمثيلية حمقاء لإلهاء الشعب المصرى.
وبعد ثورة يونيو 2013، وبعد الانتهاء من فض اعتصامات رابعة والنهضة، بدأت مصر تستعيد توازنها والعودة للاهتمام بقضية سد النهضة، لكنها كانت ما زالت تعانى من ظروف داخلية طاحنة. وخارجياً كان هناك تربص بمصر من الدول الغربية، وكان تجميد عضوية مصر فى الاتحاد الأفريقى، وكانت هناك -وما زالت- مشاكل إقليمية مع تركيا وقطر، فلم تجد الدولة أمامها إلا استكمال المفاوضات مع الجانب الإثيوبى. وبدأت الجولة الثانية من المفاوضات باجتماع وزراء المياه للدول الثلاث فى نوفمبر 2013، وتلاه اجتماعان آخران فى ديسمبر ثم فى يناير 2014 للاتفاق على آلية للتعاقد مع مكاتب استشارية دولية للقيام بثلاث دراسات للسد، الأولى للتصميمات الإنشائية للسد، والثانية للتداعيات المائية والكهرومائية على دولتى المصب، والثالثة للآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية. وكان وزراء المياه فى الدول الثلاث قد اتفقوا على تشكيل لجنة من أربعة خبراء من كل دولة لاختيار المكاتب الاستشارية الدولية والإشراف عليها أثناء تنفيذ هذه الدراسات، ولكن إثيوبيا رفضت وبتعنت شديد وجود خبراء دوليين باللجنة، وعليه تم تجميد المفاوضات. واستغلت إثيوبيا هذه الفرصة لاجتذاب السودان إلى جانبها وإقناعها بالتخلى عن شراكتها الاستراتيجية لمصر فى ملف حوض النيل، وبالفعل تحقق لها ما أرادت..
وإلى لقاء مقبل لاستعراض تفاصيل الجولة الثالثة للمفاوضات.