الوفد
أحمد عبد الفتاح هميمى
إسلام البحيرى والجنازة الحارة
< لم أكن أتخيل أن موضوعاً مثل الحكم على المذيع التليفزيونى إسلام البحيرى بالحبس، يمكن أن يحظى بهذا الاهتمام غير المألوف وغير المقبول الذى حظىَ به عبر حلقات الجدال والصياح فى العديد من الفضائيات ومن خلال مقالات وآراء كثيرٍ من رجال الاعلام والثقافة والسياسة. فإذا كان الأصل فى تناول الحدث العام من قِبل هؤلاء بحكم مسئوليتهم الاجتماعية والوطنية هو تبصير الناس وتوضيح المبهم لهم وإظهار الإيجابيات لتعظيمها والأخطاء لتداركها، فإن الأمر كان عكس ذلك تماماً فى هذا الموضوع.
< كان للأسف الشديد تناولُ الكثير لهذا الموضوع إما من منطلق عِظم العقوبة وأنها تفوق الجرم الذى ارتكبه المذكور - وهذا قولٌ لا يجوز قانوناً لوجوب عدم التعليق على الأحكام كما أنه لا يُستساغ من غيرِ أهل القانون الدارسين للجرائم وعقوباتها - أو من منطلق أنه عُوقِب لآرائه التنويرية التى أبداها فى الشريعة الإسلامية وانتقاده الجرىء لرموز السلف الصالح! وفى الحقيقة فإن هذا المنطلق لأحاديث البعض هو ما أحزننى وأقلقنى وذلك للأسباب الاتية: (1) أن كلَ السادة المثقفين وأصحاب المنابر الخطابية وكل المهتمين بالشأن العام يعلمون علم اليقين بأن إسلام البحيرى لم يُقدّم للمحاكمة من البداية ولم يُحكم عليه بالحبس لرأىٍ أبداه أو لفتوى من الفتاوى العنترية التى أفتى بها، ولكنه مثُلَ أمام القضاء بتهمة السب العلنى لرموز السلف وعلماء المسلمين والتهكم على أصول العقيدة والسخرية من ثوابت معلومةٍ بالضرورة وهو ما يشكل جريمة ازدراء الأديان، وهنا نذكر نصاً رائعاً لمحكمتنا العليا فى الطعن رقم 653 لسنة 11 ق جلسة 27/1/1941 حيث قالت: «إذا كانت حرية الاعتقاد مكفولةً بمقتضى الدستور إلا أن هذا لا يتيح لمن يجادل فى أصول دينٍ من الأديان أن يمتهن حرمته أو يحط من قدره أو يزدريه عن عمدٍ منه، فإذا تبين أنه كان يبتغى بالجدل الذى أثاره المساس بحرمة الدين والسخرية منه فليس له أن يحتمى من ذلك بحرية الاعتقاد، والقصد الجنائى هنا من الأمور التى تستخلصها محكمة الموضوع من الوقائع والظروف المطروحة أمامها»، هذا حكم الحديث وهو مجردُ رأىٍ ونقاش فما بال إذا كان سباً وتطاولاً وفحشَ قولٍ وبذاءةَ لسان؟ فإذا كان هؤلاء المدافعون يعلمون ذلك، فلماذا يحاولون تضليل الرأى العام وتصوير المذنب كبطلٍ قومى راح ضحية آرائه الحرة المستنيرة، ولماذا يتعمدون الإساءة للدولة والنيل من سمعتها بالادعاء كذباً وزوراً وبهتاناً بأن آراء وأفكار هذا البطل المغوار أودت به إلى السجن لأنها جاءت فى دولةٍ يسودها حكمٌ مستبد ويخيم عليها ظلامٌ ثقافى حالك؟ (2) إذا افترضنا جدلاً أن حبس أو اعتقال المذكور كان لمجرد إبدائه لأفكاره الغثة وآرائه الشاردة، فإن الواقع العملى يهدم هذا الافتراض لأن هناك الكثير من أصحاب العقائد المناقضة للعقيدة الاسلامية وأصحاب الآراء المتعارضة مع الشريعة المقدسة وهم يعلنون ذلك ليل نهار ومع ذلك لم يُقبض على أحدٍ منهم ولم يُتهم أىٌ منهم برأىٍ أبداه، فالدولة المصرية دولةٌ عريقة ومتحضرة ونظامها لا يعاقب فكراً ولا يحجر على رأى. فإذا كان الأمر كذلك، فإن إثارة البعض لموضوع إسلام البحيرى بهذا الشكل إنما يثير بعضاً من الظن فى النوايا وكثيراً من الشك فى الإدراك. (3) بعيداً عن القضية والحكم الصادر فيها، ودون تشدقٍ بشعارات حرية الرأى والإبداع التى يستغلها بحنكة المغرضون لتدمير المجتمع، فإننى أعتقد أن ما اقترفه إسلام البحيرى فى حقيقة الأمر من جرائم، تفوق بكثير تلك التهمة التى حوكم بها، فهو تصدى للافتاء وهو غيرُ أهلٍ له شرعاً، كما انحرف عن آداب مهنته واستغل صفته الوظيفية كمذيع لنشر أفكاره الخاصة على الكافة، كما تسبب بها - سواءً عن قصدٍ أو بغير قصد - فى إشاعة البلبلة فى المجتمع وتكدير السلم العام والإساءة لمشاعر المسلمين، وكنتُ أظن أن مصطنعى الجنازة الحارة على الفقيد سيتطرقون إلى ذلك طالما لديهم هذا المتسع من الوقت.
< تبقى كلمة أخيرة نُذكِّر بها أنفسنا جميعاً، وهى أنَّه فى ظل حالة الاضطراب التى غالباً ما تسود المرحلة الانتقالية لأى ثورة، فلا بد أن نتلمَّس سُبل الاتفاق على أى شىء، حتى نحافظ على وحدة الدولة وسلامتها ونحفظ للمجتمع ركائزه المعنوية للقوة والصلابة، وأسمى تلك الركائز وأعظمها هى عقيدته الدينية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف