أحمد عبد التواب
المخابرات والانتخابات البرلمانيــة.
ما كانت شهادة الدكتور حازم عبد العظيم تستحق الردّ عليها، وكذلك الولولة التى ذرفت الدموع على ما قيل فى الشهادة بأنه انتهاك للحيدة الانتخابية، التى بدا البكاء عليها وكأنها مترسِّخة فى الانتخابات المصرية عبر الدهور! ولكن فقط احتراماً لعدد محدود من الأصوات المحترمة التى تبنت مضمونَ الموقف واعتبرتها سقطة وصفها بعضُهم بأنها تاريخية!
الملاحظة الأولى أن بعض من يعتبرون أنفسَهم معبِّرين عن ثورة الشعب المستمرة منذ خمسة أعوام، الذين تلقفوا الشهادة المذكورة وراحوا ينفخون فيها، كانوا ممن أعلنوا مقاطعتهم للانتخابات ودعوا الناخبين إلى المقاطعة، ثم زعموا أن ضعف المشاركة كان تلبية لدعوتهم. بما يعنى، وفق مزاعمهم، أن ما تذكره الشهادة المشار إليها، لم تكن على حسابهم، بفرض صحة ودقة ما جاء فيها عن مساعدة المخابرات لاتجاه يدعم الدولة والرئيس! وكان حرياً أن يحاول أحدُهم الإجابة عن السؤال المهم: على حساب من كان هذا التدخل؟ لأن المسألة تتجاوز كونها تعبيراً عن مبادئ أخلاقية، مما يتربى عليها النشء بخيال عالم والت ديزنى، إلى كونها ممارسة سياسية لها نتائج واقعية على الأرض، وبعض هذه النتائج آنى وبعضها يمتد إلى المستقبل.
يتعمد البعض أن يتغافل عن حقيقة واضحة، وهى أن الامتناع عن المشاركة فى الانتخابات وتوجيه الدعوة للناخبين لمقاطعتها تصبّ مباشرة فى صالح الإخوان وحلفائهم! لأن هؤلاء الذين خرج الشعب بعشرات الملايين للثورة عليهم واستجار بالقوات المسلحة للمساعدة على إنفاذ الإرادة الشعبية بعزلهم عن الحكم، هم الجماعة المنظمة ذات الأموال الطائلة والمدعومة من قوى خارجية، كما أنهم يعتمدون الكذب ويجيدون التخفى ولديهم خلاياهم النائمة التى لم تكن لتدع فرصة للفوز إلا وعضّت عليها بالنواجذ، وتكون فرصتهم على أفضل ما يكون لصالحهم عند مقاطعة التيارات السياسية المعارِضة لهم وعند انفضاض المشارَكة الشعبية، فيخوضون الانتخابات دون منافسة حقيقية، ويحشدون مؤيديهم فى وقت تنسحب فيه الأصوات الرافضة لهم.
وهذا يعنى، بمنتهى الوضوح، أن الإخوان وحلفاءهم هم الخاسر الأساسى من تدخل المخابرات الوطنية، بفرض أنه حدث كما جاء فى الشهادة. ولا غرابة أن يكون الإخوان رافضين لهذا التدخل، وأن يكونوا متسقين مع موقفهم الرافض لتدخل القوات المسلحة بأجهزتها، ومنها المخابرات، فى تنفيذ الإرادة الشعبية بعزلهم عن الحكم.
وأما الأكثر تناقضاً مع أنفسهم ومع مواقفهم فهم الذين يَلْغُون الآن بإدانة التدخل فى الانتخابات، مِمَن شاركوا فى مطالبة القوات المسلحة بأجهزتها المختلفة بأن تتدخل لعزل الإخوان، برغم الشكليات الشرعية التى تمسك بها الإخوان آنذاك ولا يزالون! ثم إن تدخل مخابرات البلاد لحمايتها من خطر فوز الإخوان فى الانتخابات هو متصل بمهمة عزل الإخوان التى طالب بها الشعب ولا يزال يصرَ على رفض المصالحة معهم، لأن فوز الإخوان فى الانتخابات هو دعم للإرهاب المسلح بأحدث وأشدّ الأسلحة الموجهة ضد الشعب وأجهزة الدولة والذى لا يزال الجيش والشرطة يواجهانه. كما أن هذا التدخل يتعادل مع أن الأخوان متعاونون ومدعومون من أجهزة مخابرات معادية. فى حين أن كثيراً من هؤلاء الرافضين لتدخل المخابرات الوطنية لا يتصدّون لتدخل المخابرات الأجنبية بهذا السفور فى شئوننا عن طريق الإخوان، بل إن من هؤلاء الرافضين فصيلاً لا يزال حتى الآن، وحتى بعد أن انكشف الغطاء عن كثير من الأسرار، يدافع عن شرعية مرسى، وهو الموقف الذى تدعمه مخابراتُ الأعداء!
وفى عبارة طويلة فى الشهادة المذكورة يُفهَم منها أنه لم يكن هناك تزوير فى صندوق الانتخابات، وإنما المأخذ على نسف مبدأ تكافؤ الفرص والمنافسة الشريفة والمخالفة للدستور. وكأن تكافؤ الفرص فى الانتخابات يتحقق لخصوم الإخوان الوطنيين عندما يُترَكون لمصيرهم فى مواجهة الدعم الهائل الذى يناله الإخوان من المخابرات الأجنبية! خلاصة لغو المنتقدين يعنى، عملياً، أن تُترَك الساحة للإخوان وحلفائهم المدعومين من مخابرات الأعداء، وأن تتفرج على المشهد أجهزة الدولة، بما فيها المخابرات الوطنية، إلى أن يفوز الإخوان بكل ألاعيبهم الانتخابية، لتتعزز قوتهم ضد إرادة الشعب، وحتى تقوى شوكة الإرهاب فى سيناء وعبر البلاد، فيرضى المنتقدون ويقرّون عيناً! وإن كان المُرَجَّح أنهم عندئذ سيوجهون نقدهم إلى أجهزة الدولة ويتساءلون: أين المخابرات التى تقاعست وتركت الإخوان يفوزون بسهولة!
لا خلاف على أن من مستهدفات الثورة أن تكون لمصر انتخابات لا تقل عما هو معمول بها فى أكبر الديمقراطيات فى العالم. ولكن من حظوظ هذه الديمقراطيات أنه ليس لديهم جماعة للإخوان إرهابية تتواطأ مع أعداء الوطن، وأنه لا يعادى اختيارات شعوبها قوى عظمى لم تتوقف عبر عقود عن التخطيط لتدميرها، والضلوع الفعلى فى اعتداءات صارخة على أوطانها وتسليح أعدائها فى الداخل والخارج.
لقد بات الوضع لدينا، فى هذه اللحظة التاريخية، فى حاجة إلى الوضوح فى تحديد الأولويات، وهى مسألة تزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم، وهى تخصّ الإجراءات واجبة الاتباع لحماية البلاد من الإرهاب الذى يخلط الدين بالسياسة، والذى صارت مخاطرُه على أعلى درجة من الوضوح. وللغرابة، فإن جماهير الشعب، خاصة البسطاء، قد حسموا أمرَهم، وتبنوا الإجراءات الثورية، وما كان لخروج 30 يونيو أن يكون مؤثراً لولا انضمام هذه الجماهير الهائلة، ثم لم يتركوا فرصة إلا وعبَّروا فيها عن موقفهم الرافض لعودة حكم الإخوان أو للمصالحة معهم، بل إنهم يهتفون ضدهم مطالبين بإعدامهم فى كل جنازات ضحايا جرائمهم الإرهابية.
ولولا القوات المسلحة ما كان لـ30 يونيو أن ينجح، ولولا الدور البطولى للجيش المصرى فى سيناء لكان الإرهابيون يرتعون فى طول البلاد وعرضها.
ومن الجدير بالملاحظة والمتابعة واستخلاص المعانى، هذا الجدل الدائر فى أعتى الديمقراطيات الغربية، كردّ فعل على العمليات الإرهابية التى تعرّضت لها فى السنوات القليلة الماضية، والطرح الجديد المثير للجدل والمناظرات، والذى فرض نفسه عليهم، عن الضرورة المؤسفة التى تجبرهم على التنازل عن بعض الحريات التى نعموا بها عبر عقود حتى يتمكنوا من مواجهة موجات الإرهاب التى تستفحل مستغلة مناخ الحريات.
المعضلة التى يفرضها الإخوان، أن حكمهم يترتب عليه انتهاك مخيف للحريات الأساسية، كما أن وجودَهم خارج السلطة ينتعش مع اتساع الحريات التى ينادى بها الشعب، بما يوجِب الوصول إلى اتفاق عام على ترتيب الأولويات الوطنية، وهذه مسئولية كل الأطراف خاصة مجلس النواب الجديد.