منذ خمس أعوام بلغ السيل الزبى فى مصر، عندما تصور مبارك أو بالأحرى رجال النظام الذى كان يحكم مصر وقتها، أن بإمكانهم تجديد شباب نظام وصل إلى سن الشيخوخة فى الفكر والممارسة، عبر الترويج لنجل مبارك وعصابته الجديدة، تولى دفة قيادة المشهد رجل الأعمال أحمد عز، الذى رسم ملعب السياسة والحكم بحيث تصادر كل مساحات المعارضة، وتتحول الدولة إلى حالة موالاة كاملة للحكم، متوسلا بتزوير الانتخابات التى أفرزت برلمان 2010 الذى كان القشة التى قصمت ظهر نظامه بعدها بأقل من شهرين.
ظلت جموع الشعب المصرى تبلع غضبها من هذا النظام وسلوكه الذى وصل بمصر إلى الحضيض فى كل منحى، وبدت المعارضة المصرية تلعب تجرى فى المكان وتصاعدت انتهاكات جهاز الشرطة الذى طالت انتهاكاته الجميع، من اقترب من السياسة اأو حتى من أثر الابتعاد عنها طلبا للسلامة التى لم تدركه، بدت مصر كلها يائسة إلى حد الإعياء من انسداد كل طرق التغيير السلمى، كانت الدولة قد استقالت من كل واجباتها القومية قبل أن تستقيل من واجباتها كدولة فى مواجهة رعاياها، فلا تعليم ولا صحة ولا مرور ولا نقل ولا إسكان ولا أى شىء له علاقة بمعنى دولة ومؤسسات، وفساد تحول من فساد إدارة إلى إدارة فساد وبنية مؤسسية كاملة.
لكن فريقا من هذا الشعب وبالتحديد شريحة الشباب، ممن تبقى من أنقاض الطبقة المتوسطة فى مصر التى ناصبها السادات ومن بعده مبارك العداء، وظل يضيق أمامها المسالك ويصعب حياتها كانت قد تلقت رغما عن نظامها معنى أخر للوطنية، ومفهوما مختلفا عن التغيير بعدما ضاقت مسالك الإصلاح أو التغيير.
وعلى استحياء انطلقت دعاوى عبر الفيسبوك وتويتر للحشد فى ميدان التحرير، تزامنا مع احتفالات الشرطة بعيدها فى 25 يناير لتعطى رسالة سلمية مكثفة وعبر عدد كبير من المصريين الأحرار، أنه "كفاية قهر" كرسالة تحاول استعادة الحد الأدنى من الحقوق والحريات فى هامش الحياة الذى رسمت حدوده الأنظمة المختلفة، وتجاوب الشعب مع الدعوة بشكل لم يخطر على بال النظام وترددت قوى معارضة كبيرة كجماعة الإخوان المسلمين فى المشاركة، خوفا من أن تنكسر تلك الموجة فتحين لحظة الحساب فتدفع هى الفاتورة وحدها، إضافة إلى أنها كانت دوما جماعة إصلاحية لا تؤمن بالتغيير الثورى، ومن ثم تأخرت الجماعة حتى تأكدت أنها بصدد ثورة حقيقية لشعب يأس من التغيير عبر التدافع السياسى الهادىء، ومن ثم انضمت الجماعة بكامل طاقتها الى هذا الفعل الشعبى الكبير الذى ظلت موجاته تضغط على من كان يدير البلاد فعليا بعد تنحى مبارك وانكسار الشرطة فى 28 يناير، هذا الفعل الذى يجب التعامل معه بشجاعة ووضوح من كسر الشرطة؟ من هاجم الأقسام فى وقت واحد؟ هل هى حماس التى مضت سياراتها ذات الدفع الرباعى من رفح حتى حررت سجناء وادى النطرون وأبوزعبل، ثم انطلقت إلى ميدان التحرير لتقنص الثوار وترسم ملامح مؤامرة إقليمية مع الإخوان المسلمين، وكل الترهات التى ظلت تتردد بإلحاح فى منابر إعلامية معروفة لتشوش وعى الناس بيناير التى كانت مبرراتها أوضع من رابعة النهار، لم يكسر الشرطة سوى المظالم التى شاعت فصنعت عدوا من شباب سلمى لم يحمل يوما سلاحا سوى غضبه وطموحه، وعدوا آخر من اللصوص وعتاة المجرمين الذين وجدوا لحظة الثورة مناسبة للأنتقام، فتقدموا لمراكز الشرطة بكل ما لديهم من غضب وإجرام حرقا وسلبا وانتقاما، فى فعل لا يقبله وطنى حر لكننا نسوقه فى إطار التفسير وليس التبرير، الذى تصنعه أسباب أخرى ثار المصريون من أجلها فى يناير مثل استبداد نظام مبارك وعصابته بالحكم وتغييب الديمقراطية والحكم الرشيد.
إهدار حق المصريين فى اختيار نوابهم فى انتخابات حرة ونزيهة وتوفير أجواء انفتاح سياسى حقيقى فساد الوزرات والقطاعات الحكومية وتحكم الأمن فى كل مقدرات الدولة فى الجامعات والوظائف وغيرها.
إفقار المصريين وامراضهم وعدم توفير الحد الأدنى اللائق بحياة البشر، ورعاية سياق اجتماعى وسياسى واقتصادى جعلنا فى ذيل الأمم فى كل المناحى.
انتهاك حقوق وحريات المواطنين والعدوان على الدستور والقانون تحويل مصر إلى كيان طارد للمبدعين والمتفوقين فى كل المجالات ورعاية الفساد والمفسدين.
غلق كل مسارات العمل السياسى السلمى وتداول السلطة ووقوف كل مؤسسة عند أدوارها دون إفراط أو تفريط.
فساد الرئيس وبطانته وعداونهم الممنهج على المال العام.
كل هذه الإسباب وغيرها كانت مبررات يناير، التى كانت غضبة شعبية تقدمتها طليعة مؤمنة بحق المصريين فى حياة تليق بهم، قدمت تلك الطليعة أرواحها دون أن تنتظر جزاءا أو شكورا وكعادة كل الثورات ضحى الشرفاء والمخلصون بأرواحهم، وتقدم لنيل الثمرة المغرضون والإنتهازيون، من كانوا لا ينظرون إلا تحت أقدامهم من ظنوا أن لحظة التمكين حانت فتقدموا غير وجلين لإلتقاط الثمرة المفخخة، التى انفجرت فى وجوهنا جميعا ليظهر بعدها من اختبأ وهو يضغط على زر التفجير، ليسفر المشهد بعد نهايته عن إفاقتنا جميعا من كابوس الخمس سنوات التى قدر من أداروا المشهد أنها كافية لتخدير وعينا جميعا ،وبناء القناعات الجديدة على مقاس النظام الجديد الذى ليس جديدا.
لازالت مبررات يناير حاضرة فى كل منحى، لم يتغير شىء سوى إختفاء لاعب كالإخوان بفعل جنايته على الأمة من جهة وقمع الأمن من جهة أخرى، ولن تفلح تلك الفزاعة من جديد فى صرف المصريين من المطالبة بتغيير حقيقى، الفساد والاستبداد وضعف الكفاءة وأشياء أخرى كثيرة مما ثار عليه المصريون من خمسة أعوام لازالت حاضرة تخرج ألسنتها لنا جميعا.
الخوف من يناير مبرر لدى النظام السياسى، لأنه لازال يقرأ من دفتر مبارك بوعى أو دون وعى ومبالغته فى أصباغ الزينة لن تعيد العجوز عروسا فكما يقول المثل "وإيش تعمل الماشطة فى الوش العكر".
يبدو المشهد قريبا من يناير 2011 حالة يأس جماعى، وتدابير أمنية تحرس يناير من أن يتكرر متناسية أن الولع ليس بشتاء يناير أو عواصفه الحقيقية او المفتعلة، بل بأحلام التغيير التى داعب بها نفوس المصريين وهواء الحرية الذى تنفسته مصر، والذى أشك أن تنساه أبدا فى يناير أو غير يناير وإن توهم البعض غير ذلك .