وقد يقال لك إنها فوائض حيوية سياسية، وأن الهرج والمرج قد يحدث في أعرق البرلمانات، ولا بأس أن يحدث عندنا أيضا، وهذه نظرية بائسة في التبرير
لا شبهة في مغزي قرار منع البث التليفزيوني المباشر لجلسات برلمان علي عبد العال، فقد أريد به وقف بث الفضائح، والتخفيف من صدمة الخيبة «بجلاجل»، وهو هدف لن يتحقق غالبا، فهو يصادر علي الحق الدستوري للناس في مراقبة برلمان يتحدث باسمهم، ويصور البرلمان كشخص خرف يحق عليه الحجر، وكبلوي ومصيبة يخفيها الذين أمروا بالمنع، وقد فاتهم أن القرار لن يمنع تسريب الفضائح، فلم يعد بوسع أحد أن يتخفي بشئ مع ثورة الاتصالات، أو أن يغطيه بحجاب ونقاب يستر القبح عن الناظرين.
وقد يقال لك إنها فوائض حيوية سياسية، وأن الهرج والمرج قد يحدث في أعرق البرلمانات، وأن اشتباكات جرت في برلمان كوريا وأوكرانيا وفي مجلس العموم البريطاني، ولا بأس أن تحدث عندنا أيضا، وهذه نظرية بائسة في التبرير، لا تدرك الفرق، ولا تعرف أن الاشتباكات العنيفة بالألفاظ أو حتي بالأيدي والأرجل، قد تعد تجاوزا في طرق التعبير وانفعالاته، ولكن من حول قضايا عامة، أو استجوابات ساخنة، أو بين مؤيدي الحكومات ومعارضيها، وهو ما لا يشبه شيئا يحدث عندنا، فالبرلمان المصري الحالي منزوع السياسة، وخال من شبهة المعارضة إلا فيما ندر، وفضائحه الصاخبة من نوع آخر تماما، وعلي نحو ما عرفه الناس في الجلسات المذاعة تليفزيونيا، ومن عينة الركاكة اللغوية المفزعة، من أول الرجل الذي اختاروه رئيسا للبرلمان، إلي النائب الذي يحلف بالطلاق بمناسبة وبدون مناسبة، وإلي الجهالة الفادحة بأبسط مبادئ ودواعي الدستور، وإلي قرارات الإدارة التي لا تقر علي قرار، وتستعيد سيرة «المعلم حنفي» في فيلم «ابن حميدو» الكوميدي الشهير، فتؤخذ القرارات في تعجل وثقة، ثم «تنزل الأرض» بنفس التعجل وذات الثقة، وكأننا أمام «برلمان تجريبي» و»منصة تجريبية»، يصيبه ويصيبها «زهايمر» يمحو ذاكرة برلمانية ممتدة في مصر لقرن ونصف القرن، ناهيك عن ألعاب الأطفال التي ازدحم بها المسرح البرلماني، والولع بصور «السيلفي»، وعروض بهلوانات «البلاستر» اللاصق، والسخرية البلهاء من أي حديث عن قانون أو لائحة، فهم يعرفون الحكاية وما فيها، ويصرفون وقتهم في استعراض عشوائي، وإلي أن تحين لحظة رفع الأيدي بالموافقة التلقائية عند الحاجة، وهو ما دفع النائب المخضرم كمال أحمد إلي وصف المشاهد إياها بأنها تشبه «شوادر البطيخ» (!).
وأخذ الاحتياطات في ستر فضائح النواب، لا يداري الفضيحة الأصلية الكامنة في تكوين البرلمان نفسه قبل ممارسات نوابه، فنحن بصدد برلمان بلا عمل برلماني، برلمان بلا دور مؤثر في الرقابة والتشريع، ويعوض نقص الدور بعروض «البهلوانات»، ويتلهي بصنع «القفشات» عن مناقشة الاستجوابات، ويوصف عدد من أعضائه علنا تحت القبة بأنهم «مخبرون»، فلا يرمش لهم جفن، ولا ينبض فيهم عرق نخوة، ولو علي طريقة «إذا ابتليتم فاستتروا»، لكن أحدا لا يريد أن يستتر، ولا أن يضع في عينه «حصوة ملح»، فالطبخة كلها «مسلوقة»، ولا يري العضو من واجبه سوي أن يواصل التمثيل، أن يمثل علينا لا أن يمثلنا، فنحن بصدد برلمان لا يمثل الشعب بأغلبيته الساحقة، فقد قاطع ثلاثة أرباع الناس انتخاباته بكافة جولاتها، وجعلوه «ميني برلمان» لا يمثل سوي «الميني شعب» الذي ذهب إلي صناديق التصويت، فقد صوت عشرون بالمائة من الناخبين في جولتي انتخابات الإعادة بحسب الأرقام الرسمية، وفاز الذين فازوا بنصف النسبة زائد صوت واحد، أي أنهم ـ بالأرقام ـ لا يمثلون سوي عشرة بالمائة من الشعب المصري، ناهيك عما يعرفه القاصي والداني من كوارث الرشاوي الانتخابية، وتحويل القصة كلها إلي مقاولة منزوعة السياسة، وإلي مباريات مالية لشراء المرشحين قبل شراء الناخبين، وتحويل البرلمان إلي «شركة مساهمة» محدودة بين حفنة مليارديرات وضباط من جهات أمنية.
ولا أريد أن أظلم أحدا بتعميم مخل، فقد تسرب إلي «البرلمان المصنوع» عدد محدود من النواب المستحقين للصفة البرلمانية، قد ننتظر إسهاماتهم ومعاركهم، وإن كنا لا نثق في جدارة هذا « الميني برلمان « كمجلس تشريع، ولا نعتقد بجدواه في بناء نظام سياسي مقنع، ولا في دستورية وسلامة تكوينه، وقد توالت مئات الطعون علي صحة العضوية إلي محكمة النقض، وانهالت عشرات الطعون علي محاكم مجلس الدولة، تضمنت طعونا علي دستورية قوانين انتخاب البرلمان الحالي، قد تذهب كلها أو بعضها إلي المحكمة الدستورية العليا، والتي قد تأخذ وقتا طويلا أو قصيرا في نظر الطعون، وسوف تقضي ـ فيما نظن ـ إن آجلا أو عاجلا بعدم دستورية القوانين إياها، وكلها من صنع ترزية «الكدب المفعكش»، وبما يجعل « برلمان الفلول» علي حافة هاوية، بقرار يملكه الرئيس، قد يستخدم في الوقت المناسب بحسب الأحوال، وقد يكون الحل هو الحل، إذا زادت معدلات الفضائح عن الحد المقبول من صناع اللعبة، أو إذا خرج عفاريت العلبة عن حدود السيناريو المرسوم لفيلم «الكارتون».
وإلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فسوف نظل في أسر صناع الفضائح، وفي المفارقة العجيبة التي نعيشها، فقد تراجعت مقدرة مصر علي تصدير السلع، وانهارت الصادرات مقابل تضخم الواردات في السنة الأخيرة، وتفاقم العجز المخيف في الميزان التجاري، ولا حل بغير اقتصاد ينتج سلعا قابلة للتصدير، انخفضت معدلاتها جدا، فيما زاد انتاج الفضائح القابلة للتصدير، وتلويث سمعة مصر في العالمين، وعلي نحو ما يفعل مسئولون لا يفرقون بين الألف وكوز الذرة، ويحدثك أحدهم بثقة مهلكة عن الرياح الشمالية والغربية التي تعوق صواريخ إسرائيل عن ضرب مصر (!)، وبما ينافس «جهل» و»عبط» و»هبل» المذيعين الأكثر شهرة في الإعلام المصري، وقد تضاف إليهم «جهالات» تصدر عن البرلمان إياه، وبما يجعلنا بلدا عظيما في إنتاج المساخر وتصدير الفضائح (!).