الوطن
امال عثمان
صراع «الأرض».. وحرب «العقول»!
فى مشهد بليغ شديد الدلالة يسكن الذاكرة من فيلم «الأرض»، رائعة المبدع يوسف شاهين، يتصارع «عبدالهادى» و«دياب» وأنصارهما حول سقية أرضهم، وبدلاً من أن يوجهوا معركتهم إلى من قام بتعطيش أرضهم ومنع المياه عنهم يتعاركون ويتقاتلون فيما بينهم للحصول على حصة مياه الرى المتاحة، بعد تقاسمها بين أراضى الفلاحين وأراضى الإقطاعى «محمود» باشا!! وأثناء المعركة يفاجأ أهل القرية بسقوط «البقرة» فى «الساقية»، فيتركون خلافاتهم ويتكاتفون جميعاً لإنقاذها قبل أن تغرق فى القاع!!

وإذا كان هذا المشهد البديع قد جسّد صورة الشخصية المصرية التى تنحّى خلافاتها واختلافاتها وتتآزر وتتضامن حين تستشعر المخاطر، وتتلمس الأخطار المحدقة بالوطن، فإنه يعكس أيضاً على الجانب الآخر الصراعات والأزمات والمخططات التى تستهدف إنهاك الشعوب وإرهاقها، وبث الشعور بالضعف وفقدان الثقة لإعادة تشكيل وعيها والسيطرة على أفكارها وقناعاتها وآرائها، وإلحاق الهزيمة الداخلية بها تحت وطأة التوترات والضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ولا تختلف تلك المخططات والصراعات فى كل زمان ومكان، وإنما تتبدل الوسائل والسبل وتتعدد الطرائق والمسميات، فبعد التوسع الرهيب فى استخدام وسائل الاتصال الحديثة، صارت السيطرة على العقول والأفئدة، من خلال شبكات التواصل الاجتماعى والإعلام الرقمى وإعلام المواطن، نمطاً مستحدثاً يمتلك أدوات الحرب النفسية والعقلية بامتياز، ويستحوذ على وسائل تشكيل العقول وغسيل الأدمغة بجدارة!!

وفى دراسة اطلعت عليها مؤخراً حول المخاطر والتهديدات الناجمة عن استخدام وسائل الاتصال الحديثة، أشارت إلى أن أقوى الجيوش التى يمكن أن يواجهها الإنسان فى حياته، هو جيش أفكاره التى تدور داخل عقله، لأن هذا الجيش قادر على تحطيم أى شخص إذا لم يستطع أن يكون هو قائداً له، وأصبح تابعاً لتلك الأفكار والآراء التى تسيطر على وعيه وتهيمن على قناعاته،

كما أظهرت الدراسة كيفية استغلال اللاشعور أو اللاوعى الذى تتيحه بيئة التعامل مع ذلك العالم الافتراضى، والاستفادة من التداعى الحر للأفكار المكبوتة فى عمليات غسيل الأدمغة، وتغيير الاتجاهات بصورة حادة، واستفزاز المشاعر وتوجيه السلوك نحو العنف، من خلال التعرض الدائم لكم كبير من المعلومات المغلوطة، وحملات التشكيك والفتن، وتناقلها عبر العديد من الصفحات والمواقع، وتضخيم نقاط الضعف وتسليط الضوء على السلبيات، وتعميق الشعور بالفشل والإحباط.

وهذا ما جعل الإنترنت الساحة الخامسة للحروب، واتخذ الإرهاب الإلكترونى أحد أشكال الصراع المسلح، وصار الوسيلة الناجزة التى تستخدمها المنظمات المتطرفة والإرهابية فى استقطاب الشباب والمراهقين، من خلال صفحات الويب العميق (Deep Web)، التى تسمح بإخفاء هوية المتصل والمتصل به، وكذلك تشفير المحتوى للتخفى بعيداً عن أعين الجهات الأمنية، ولكن بالطبع ليس بعيداً عن دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا التى باتت ترعى إرهاب الإسلام الراديكالى، وهو ما اعترفت به هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، حين قالت إن عدو اليوم من الجهاديين الإسلاميين هم من ظلت الولايات المتحدة ترعاهم عشرين عاماً!!

ولا يخفى على أحد الاهتمام الكبير الذى أولته أمريكا لعمليات الحرب النفسية التى أطلقت عليها اسم «حرب العقل»، والدراسات التى أجرتها حول السيطرة النفسية من خلال وسائل الاتصال الحديثة، ومواقع التواصل المختلفة التى تمتلكها الولايات المتحدة، حيث يرى أحد القادة العسكريين المتخصصين فى تلك الحروب أنه يجب اختراق عقول «الجنود المحتملين» فى البلاد عبر مجتمعاتهم منذ الصغر، وقبل أن يرتدوا الزى العسكرى، وتوظيف كل التقنيات لغسل أدمغتهم، حتى يكونوا الأكثر عرضة لحرب العقل!!

ولا يقتصر الأمر على ذلك وإنما عملت الولايات المتحدة على جذب الشباب العربى المناهض لسياستها فى الشرق الأوسط، برغم انبهاره بنموذج الحياة والثقافة الأمريكية، وذلك من خلال ملايين الدولارات التى دفعتها إلى منظمات المجتمع المدنى، تحت زعم تدريب الشباب على الديمقراطية، عملاً بالمثل القائل: «حين تكون صياداً عليك وضع الطعم لجذب الفريسة»، فبدون طُعم لا توجد «فريسة»، وبالفعل ابتلع الشباب الطعم!!

وإذا كانت الحكمة تفرض علينا أن نسرع بالدخول إذا ترك العدو باباً مفتوحاً، فإن هذا لا يعنى أن ننسى من هم أعداؤنا الذين خططوا لتنفيذ مشروع «حدود الدم»، وسعوا لتقسيم الدول العربية إلى مجموعة دويلات صغيرة على أساس دينى ومذهبى وعرقى وطائفى، تعيش إلى جانب إسرائيل الكبرى، ذلك المشروع الذى وضعه المستشرق اليهودى البريطانى الأصل برنارد لويس «رأس الأفعى» وصاحب نظرية أن الاستعمار للشعوب العربية نعمة تخلصهم من آفة الجهل والتخلف الذى رسخه الدين الإسلامى!! وأنهم إذا تُركوا لأنفسهم سوف يفاجئون العالم بموجات إرهابية تدمر الحضارات!!

لذا أندهش حقاً من تلك الأطروحات التى خرجت تعليقاً على زيارة «جون برينان»، مدير وكالة المخابرات الأمريكية، ولقائه بالرئيس السيسى، واستغلال هذا اللقاء للتشكيك فى أهداف المؤسسات الأمنية، وهو ما يجعلنى أتساءل: هل كانت شخصية مهمة مثل مدير المخابرات المركزية ستحرص على الحضور لو لم تكن مصر نجحت فى عبور تلك الأزمة العصيبة، وأفشلت المؤامرات الغربية وقلّمت أظافر الإرهاب؟! هل كانت الولايات المتحدة ستهتم بمعرفة تطورات الرؤية المصرية إزاء القضايا الإقليمية لو لم تتمكن الدولة المصرية وأجهزتها من استكمال الاستحقاقات الدستورية، واستعادة مكانتها الإقليمية والدولية؟!

إننى أحترم حق الاختلاف، لكننى أرفض استعداء الشباب ضد مؤسسات الدولة وأجهزتها، وإغواء وتضليل الجمهور بكلمات حُبلى بالسموم!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف