أحمد الصاوى
دفاتر يناير.. عدو اسمه «الشعب يريد»
تحب السلطة أن تعمل فى صمت. تنزعج من تدخل الرأى العام فى شؤونها. تعتقد أن الحكم شأن خاص حتى لو أظهرت من الممارسات والشعارات ما يفيد عكس ذلك. تقلقها الصحافة، ولا يروق لها المجتمع المدنى الخارج عن السيطرة. لا فارق فى ذلك بين حاكم ديمقراطى -أو يظهر كذلك- وحاكم مستبد لا يظهر إلا كذلك.
كلاهما يضيق بالجمهور، خاصة إن كان الجمهور أو بعضه غير مدجن ومن النوع الذى يملك إلحاحا ودأبا على ممارسة النقد، والتحرى عن الحقيقة، وكلاهما يبذل جهدًا ليزوغ من كل ذلك بطريقته.
تنصّت حكام ديمقراطيون على مواطنيهم ومنافسيهم، وشنوا الحروب ومارسوا التعذيب استنادًا إلى مبررات ملفقة.
لا فوارق جوهرية بين الديمقراطية والاستبداد، إلا بالقدر الذى تسمح به المجتمعات لهؤلاء أو هؤلاء.
المجتمع الذى يسمح ويفرط فى السماح يفقد كل يوم مساحة من مجاله العام ليخلق فى النهاية الصورة الكاملة للاستبداد.
والمجتمع الحارس يُلزم حاكمه حدوده، ويضطره -حين يحاول التملص منها- إلى البحث عن حيل هنا وهناك، وإخفاء الحقيقة قدر ما يمكنه، ومواجهة ظهورها كما يواجه المفضوحون فضائحهم.
يتمنى أى حاكم فى مجتمع ديمقراطى صلاحيات مطلقة من تلك التى يملكها نظرائه فى مناطق كثيرة من العالم، تُمرر القوانين من أجله، ولا يضطر إلى استئذان البرلمان فى كل صغيرة وكبيرة، أهدافه وقناعاته وسياساته هى عين المصلحة الوطنية، ومن يجادل فيها لا يعرف معنى الوطن، لكن هذه التمنيات أضغاث أحلام، لأن مجتمعا كاملا عنده لا يسمح بها.
على العكس فى مجتمعاتنا قد يبدو الحاكم ديمقراطيا، لكن هناك من يجتهدون دائما لسد ثغرات المشاركة وتجفيف المجال العام، وإضعاف المجتمع فى مواجهة السلطة، وليس إخضاع السلطة لخدمة المجتمع، ومنح كل الثقة للحاكم الفرد.
أحلام هذه البلاد فى النهضة والعدل كلها مرتبطة بفرد، فى تاريخها وتراثها الثقافى وحكاياتها الشعبية. وجمل نهضتها الاعتراضية فى مسيرة تخلفها الطويلة مرتبطة بفرد، حتى الهداية للوصول إلى معرفة الله، مفتاحها فى يد فرد إن آمن آمن من فى الأرض، "اذهب إلى فرعون"، وليس للناس. والتغيير بيد الحاكم وليس الجماهير، والنهضة منحة فرد وليست إرادة مجتمع.
لذلك كانت الثورة فعلا استثنائيا.. لأول مرة هناك من يهتف "الشعب يريد"، المجتمع يتقدم ليحكم، وهذا يجرح التاريخ وميراث السلطة ذاته من معرفة، وأدبيات الجماعات السلطوية فى اعتقادها أن السلطة بوابتها لفرض نموذجها الدينى، لذلك يطعنون في الفعل الثوري الشعبي في يناير ويونيو. السلطويون لا يمكنهم استيعاب أن الشعب أراد وحقق إرادته، لا يحتفون إلا بنوع الإرادة الذي يساعد في فرض سلطتهم وتمكين مشاريعهم، لكن الإرادة المستدامة خطر لا بد من استمرار مواجهته كعدو حقيقي، والشعب الذى يريد يجب أن يتحول إلى خرافة، أو يجري الطعن فيه، حتى يظل جهة استدعاء مؤقتة وليس شريكا دائمًا.
هم يفهمون جيدًا أن الفوارق بيننا وبين غيرنا، ليست فى أنهم يملكون حكاما ديمقراطيين، ودساتير منصفة، لكن فى مجتمعات تريد وتحقق إرادتها وتفرضها وتحميها، لذلك ظلت مواجهتهم الأساسية مع المجتمع الحارس لإخضاعه للوصاية ونزع مخالبه.. "حقوقه المدنية، حقه فى التظاهر، إعلامه، ثقته فى القضاء، حراكه المدنى، أحزابه الحقيقية، برلمان صاحب اعتبار، حقه فى المعرفة، حقه فى المحاسبة".
لا فارق بين نظام جاء بعد يناير ونظام جاء بعد يونيو، كلاهما كانت تلك أجندته، والفارق الوحيد أن الثانى يملك خبرة الاستبداد وحرفته وأدواته، بينما كان الأول مجرد مشروع نظرى حرمه "الشعب يريد" من الفرصة الكاملة لاكتساب الخبرة العملية.