الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
2 ــ وقد جُزيتُ كما يجُزى سنماّر !
أريد اليوم أن أكمل حديثى عن الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف لأنه ليس حديثا عن شخص فرد، وإنما أتحدث عن أوضاع ظالمة نكتوى جميعاً بنارها كما أكتوى بها محمد حماسة عبد اللطيف الذى أشعر ومعى الكثيرون الذين عرفوه أنه جوزى بالفعل جزاء سنمار كما قال عن نفسه قبل أن يرحل بيومين اثنين فى البيتين اللذين ختمت بهما حديث الأربعاء الماضي. وأنا أبدأ هذا الحديث السابق فأعيد نشر هذين البيتين من جديد :
لم أفعل العرف لا خوفاً ولا طمعاً

لكنه الله، والأخلاق، والدارُ

ماكنت أبغى سوى حسن الوداد به

وقد جُزيتُ كما يجُزى سِنِماَّرُ !

نعم. حماسة عبد اللطيف جوزى جزاء سنمار الذى تقول عنه المعاجم العربية إنه كان بَنّاءً عبقرياً بنى لأحد ملوك الحيرة قصراً بديعاً فلما أتم بناءه ألقاه الملك من أعلاه لئلا يبنى مثله لغيره فسقط ميتاً وصارت قصته مثلاً يضرب لكل من يحسن العمل فيجزى شر الجزاء كما حدث لمحمد حماسة عبد اللطيف الذى أعطى حياته كلها للدار، دار العلوم، فجوزى فى أخريات حياته بمنعه من مواصلة عمله فيها، أى بمنعه من مواصلة حياته. لأن دار العلوم لم تكن بالنسبة له مجرد مكان للعمل وكسب الرزق، وإنما كانت له مأوى ووطنا وأهلاً وعشيرة. كانت له كما كان المنزل الذى وقف امرؤ القيس يبكيه فى مطلع قصيدته المعلقة، وكما كانت الدار التى غاب عنها زهير وعاد يبحث عنها بعد عشرين حجة، وكما كانت دار عنترة أو لبيد.

دار العلوم بالنسبة لمحمد حماسة عبد اللطيف ولأبنائها عامة هى دارهم ودار آبائهم التى تظل معمورة بهم. تستقبلهم وهم فتية شباب، وتستقبلهم وهم شيوخ، وتودعهم وتحفظ لهم تواريخهم، وتذكرهم بما قالوا ومافعلوا، ومانظموا ومانثروا.

ونحن نذكر دار العلوم فنذكر النهضة المصرية كلها. نذكر الخديو اسماعيل الذى تعلم فى فرنسا وعرف كيف نهضت وتحررت من ثقافة العصور الوسطى ومن سلطة البابا وأصبحت دولة وطنية تحتفل بثقافة العقل التى لم يكن لها مكان فى جامعة السوربون حين كانت السوربون جامعة كاثوليكية خاضعة للكنيسة، فقرر الملك فرنسوا الأول أن ينشيء معهداً يتبنى ثقافة النهضة الأوروبية ويلبى حاجات الدولة الفرنسية بعيداً عن الكنيسة ورقابتها الدينية، وهكذا أنشيء الكوليج دو فرانس أو كلية فرنسا فى القرن السادس عشر ليكون ساحة مفتوحة لكل من يطلب المعرفة لذاتها لا ليحصل على شهادة أو لينتظم فى أى سلك أو جماعة. وعلى مثال الكوليج دو فرانس أنشأ الخديو إسماعيل ووزيره على باشا مبارك دار العلوم لتزود المصريين بما لا يستطيع الأزهر أن يزودهم به ولتمارس نشاطها العلمى متحررة من القيود التى لا يستطيع الأزهر أو لا يريد أن يتحرر منها. لهذا استطاع الإمام محمد عبده الذى نعرف موقفه من الأزهر وموقف الأزهر منه أن يجد له مكانا فى دار العلوم إذ عين فيها أستاذاً للتاريخ يقرأ لطلابه «مقدمة ابن خلدون» ويعلق عليها. كما استطاع الشيخ حسين المرصفى الذى تعلم فى الأزهر أن يتعلم اللغة الفرنسية وينضم لأساتذة دار العلوم.

والشيخ حسين المرصفى هو أستاذ محمود سامى البارودى شاعر الإحياء الكلاسيكى وأحد زعماء الثورة العرابية التى اشتعلت طلباً للديمقراطية ودفاعاً عن الاستقلال الوطني.

ودار العلوم التى تبنت ثقافة النهضة هى التى تبنت شعر النهضة بمختلف تياراته. والشعراء المصريون الذين تخرجوا فيها يعدون بالعشرات إذا اقتصرنا على المشاهير : محمد عبد المطلب، وعلى الجارم، وعلى الجندي، ومحمود حسن اسماعيل، ومحمد الفيتوري، وفوزى العنتيل، وعبده بدوي، وفاروق شوشة، ومحمد حماسة عبد اللطيف، وحامد طاهر، وأحمد درويش، وأحمد بلبولة...

أذكر أمسيتى الأولى فى دار العلوم، أقصد الأمسية التى تعرفت فيها عليها حين كانت لاتزال فى مبناها التاريخى فى المنيرة الذى قرر بعض المسئولين الجهلاء أن يزيلوه لأنه مبنى قديم (!) فأزالوه. وكان الشاعر محمد الفيتورى الذى كان لايزال طالبا من طلابها قد أصدر مجموعته الأولى «أغانى إفريقيا» التى كانت حدثاً ثقافياً استقبلته الأوساط الأدبية باحتفال كبير شاركت فيه الكلية بالطبع فنظمت أمسية من أمسيات شهر نوفمبر على ماأذكر سنة ألف وتسعمائة وخمس وخمسين حضرها جمهور كبير كنت واحداً من أفراده، وكنت ولاأزال آنذاك أخطو خطواتى الأولى فى الشعر وفى البحث عن مكان لى فى القاهرة وفى حياتها الثقافية. فى تلك الأمسية تعرفت على صلاح عبد الصبور دون أن أعرف بالطبع أننا سوف نتزامل فى دار روز اليوسف، وفى حركة تجديد الشعر، وأنى سأكون إلى جانبه فى اللحظات الأخيرة من حياته.

فإذا كان لدار العلوم هذا الحضور فى حياتى، وأنا لست من أبنائها فباستطاعة القاريء العزيز أن يتصور المكان الذى تحتله فى حياة محمد حماسة عبد اللطيف الذى لم يفارقها منذ التحق بها طالباً فى الستينيات الأولى من القرن الماضى حتى تركها مرغماً قبل أن يرحل عن الدنيا بشهرين أو ثلاثة.

محمد حماسة عبد اللطيف تعلم فى دار العلوم، وتشرب تقاليدها، وصار فيها معلماً وأستاذاً، وشارك فى إدارتها حتى أحيل للتقاعد فواصل عمله فيها غير متفرغ. وفجأة صدر قرار بمنعه من مواصلة العمل فى الكلية بحجة أنه أصبح عضواً فى مجمع اللغة العربية ونائباً لرئيس المجمع، ومعنى هذا أنه يجمع بين راتبين. وعليه إذن أن يترك الكلية، وأن يرد للجامعة المبالغ التى حصل عليها منذ صار عضواً فى المجمع. وهى حجة واهية لأن أعضاء المجمع لا يحصلون على رواتب، وإنما هى مكافآت يحصلون عليها نظير مايشاركون فيه من أعمال المجمع. ولو أن الذين أصدروا هذا القرار تحلوا بشيء من الرفق فى التعامل مع هذا الأستاذ الذى أصبح عملة نادرة فى هذا الزمن لأدركوا أن محمد حماسة عبداللطيف لم يخرج على قاعدة، ولم يحصل على غير مايستحق، ولم يحصل قبل هذا، وفوق هذا، على مايستحق!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف