سيطرت علي الطليان فكرة التخلص من "زامورا" بأي ثمن وبأية وسيلة.. إذ لم يكن الطليان يخشون أحدا من فريق اسبانيا إلا زامورا "قاهر الأبطال" فقد سبق له أن هزم منذ خمس سنوات منتخب "بطل الأبطال".. فريق إنجلترا القومي!
ويومها دخل "قاهر سادة الكرة" التاريخ من أوسع أبوابه.. إذ كانت تلك الهزيمة هي أول هزيمة في التاريخ تصيب منتخب إنجلترا خارج بلاده!!
فمنذ عام 1863 يوم كون الإنجليز اتحادهم الكروي لم يمن منتخب إنجلترا بهزيمة لا في أرضه.. ولا خارج أرضه!
ولكن "زامورا" غير تاريخ الكرة الإنجليزية بعد إنشاء اتحادها بستة وستين عاما.. ففي عام 1929 شهدت مدريد يوما أغبر مجيدا.. يوم قاد "زامورا" فريقه من بين خشبات مرماه الثلاث.. بتوجيهاته الواعية.. وروحه الوثابة.. ووثياته الشجاعة الموقوتة.. ومعنوياته العالية التي نهل منها كل أفراد فريقه.. ليفوز الاسبان يومها 4/3 علي المنتخب الإنجليزي بعد أن صد زامورا عشرة أهداف محققة بخفة الفهود وجرأة الأسود!! وكان ذلك النصر العظيم فاتحة انهيار اسطورة استحالة هزيمة الإنجليز في أرضهم.. أو خارج أرضهم فبعد عشرين عاما 1949 سحقت ايرلندا إنجلترا علي أرضها 2/صفر ليعيد المجربون الكرة عام 1953 عندما اثخنوا الأسد البريطاني في عقر عرينه بجراح هزيمة أخري مريرة وصلت إلي نصف دستة من الأهداف مقابل ربع دستة أهداف إنجليزية!!
ويؤكد المؤرخون أن الانتصار الذي حققه "زامورا" كان من ركائز دخول الإنجليز كأس العالم لأول مرة 1950 وتغييرهم لأسلوب لعبهم التقليدي البالي الطراز.. وعودتهم إلي حظيرة الاتحاد الدولي لكرة القدم وتخليهم عن مبدأ الشك في قدرة "الآخرين علي.. التنظيم!
يحيا زامورا
كان ريكاردو زامورا أعظم حارس مرمي في العالم في ذلك الوقت يحول دونهم.. والمجد! كان الإيطاليون المرشحون للفوز بكأس العالم لكرة القدم في بطولة عام 1934 يقولون ليلة مباراتهم ضد اسبانيا لو لم يكن يحرس مرمامهم زامورا العظيم.. لضمنا الفوز"!
ولم تنم فلورنسا ليلة المباراة بين اسبانيا وإيطاليا التي لعبت علي أرض ستادها الكبير.. ستاد "بيرتا".
كان الفريق الاسباني في ذلك الوقت فريقا متواضعا ولكن نجمه وحارس مرماه زامورا كان نجما عالميا تتمني أية دولة أن يحرص مرماها ذلك اللاعب "الاسطوري" الذي كان يرعب أكثر المهاجمين.. شجاعة! ويربك أشد المهاجمين.. مكرا وتحكما!!
وقد شهدت دورة باريس الأوليمبية سنة 1924 سطوع نجم ذلك الحارس الفذ.. وطيلة السنوات العشر التي سبقت تلك المباراة كان زامورا هو "الإمبراطور القوي" الذي يسيطر علي منطقة الجزاء والمرمي والخشبات الثلاث بتحركات واعية إعجازية.. بلا منافس!! وبلا فريق قوي يسنده.. علي عكس الحراس الآخرين!
ولكنه في تلك الليلة كان يحرس أنه يلعب أخطرا مبارياته وأكثرها أهمية.. بل ربما آخر مبارياته! فليس هناك بطل بلا شفافية! وكان ليلتها في الثالثة والثلاثين من عمره.. وذكري أول 27 مباراة له والتي لم يدخل مرماه فيها سوي 33 هدفا رغم تواضع مستوي الفريق الاسباني- تدفعه وتحمسه ليبذل المستحيل أمام الإيطاليين جبابرة الكرة في أوروبا في دور الثمانية لكأس العالم.
ولكن مخاوف زامورا وهمومه في تلك الليلة كانت من نوع آخر.. فالإيطاليون الذين فشلوا في دك مرماه في المباريات الدولية السابقة قد صمموا علي الفوز في تلك المباراة.. ولو بالقوة والعنف! وهم سادة ذلك اللون من اللعب وخاصة بعد تطعيم فريقهم الدولي ببعض الأرجنتينيين الذين تجنسوا بالجنسية الإيطالية! أو بالأحري الذين استعادوا جنسيتهم الأصلية الإيطالية.
مزيج.. الحب والكره!
حيته الجماهير بمزيج من.. الحب والكره! والإعجاب به.. مع تمنيات فوز فريقها الأهلي إنه ذلك النوع من التحية الذي يلقاه المشاهير من النجوم.. في ملاعب المنافسين!! وكانت خشونة مونتي متوسط الدفاع وعنف شيافيو متوسط النجوم وضراوة فيراري ساعد الهجوم الأيسر.. مضرب الأمثال وفي الدقيقة الأولي من المباراة مارس مونتي خشونته الحبيبة ودخل في زامورا بعنف ولكن الحكم أشار "العب.. العب.." وبدأت ثقة زامورا.. تتمزق!
واشتد عنف الإيطاليين. وحمي دفاع اسبانيا حارس مرماه كما لم يحمه من قبل.. ومع ذلك بدأت ثقة زامورا تتبدد ولكنها لم تضع!! كان يعرف أنه "الهدف" من الهجوم ذي الخشونة المتعمدة.
ولم ضج الملعب من عنف الإيطاليين.. بدأت الثقة تعود إلي قلب.. البطل!
وفجأة.. وعلي غير المتوقع.. سجلت اسبانيا هدفا من ضربة حرة استعد لها "لانجارا" متوسط الهجوم وإذا بزميله ويجويرو ساعد الهجوم الأيسر يدخل فجأة ويقذف بالكرة في مكان لم يتوقعه كومبي حارس المرمي الإيطالي.. ومن وقتها لم يري إيطالي من المشاهدين لما فعله الفريق الإيطالي.. بزامورا!! وقاوم زامورا الضرب والركل و16 ضربة ركنية وآلام ثلاثة ضلوع تحطمت وعشرات الكدمات والجراح!! ولم تدخل الكرة مرماه في الدقيقة الأولي من الشوط الثاني إلا بعد أن أمسكوا به وهو في طريقه لصد الكرة! واحتسب الحكم.. الهدف رغم حمرة الخجل التي علت وجوه الطليان!
وقام البطل الدامي حتي النهاية والنتيجة التعادل 1/1 ثم بدأت مذبحة الوقت الإضافي وعجز الطليان عن غزو العرين رغم استمرار هجماتهم علي مرمي الأسد المثخن بالجراح.. وفي الثواني الأخيرة وجه شيافيو صاروخا ليطير زامورا في الهواء ويبعده بأطراف أصابعه.. فتابع فيراري الكرة المرتدة ليقذف بها في أقصي يسار المرمي الخالي وزامورا علي ركبتيه في أقصي اليمين.. وبروح النمور الجريحة.. وكخفاش ينطلق من الجحيم طار زامورا في الهواء.. ليلتقط الكرة من علي خط المرمي من جانب القائم.. البعيد!!
وانطلقت صفارة النهاية.. نهاية المباراة.. ونهاية بطل وحملوه إلي المستشفي.
ولم يلعب زامورا بعدها.
ولكن ذكراه ستعبق ملاعب الكرة في كل مكان.. فذكري الكفاح الرجولي.. لا تضيع!
وفي اليوم التالي فازت إيطاليا علي اسبانيا في المباراة المعادة فازت لأنها حققت هدفها.. حرمان زامورا من الذود عن مرمي بلاده!!