يسرى الجندى
خاطرة .. من قصص الحب الذي لا يزول..
لم يكن مشروع عمار مع الموسيقي يستند إلي حرفية او مهارة وشطارة كغيره ولكنه كان ذاته!
هي: أحدثكم بداية بما تعلمته اخيرا في نهاية العمر من رفيقة العمر في محنتها المضيئة.. حيث توارت الذاكرة العليلة.. لتفسح مكانا للقلب.. لتشهد بالبصيرة ما لا نراه.. كأنه زرقاء اليمامة.. وأول ما تراه وما أحسسته أنا بقوة.. هو أن الموت وهم.. والفناء خدعة.. وأن قلب الانسان لا يعرف إلا الخلود ولا يرضي عنه بديلا.. هذا الذي يحير عقلنا العاجز فلا يملك له تصورا ولا منطقا يتفق مع من ولد ليموت.. فيكون ابنا للفناء وظلا للعدم.. أما هي فلا.. الحب يقهر العدم.. كل من أحبتهم باقون دائما.. لم يغادروا قلبها ولا عالمها.. وإن غادروا عالمنا الناقص المحير!
هل أتحدث عما يشبه عالم المتصوفة؟ أم أخوض في أوهام هروبا من وضع شرير يحيط بالواقع البشري كله الان؟ ام ان عليّ ان اسلم بعبثية خوضي في امور فوق قدرتي علي الفهم الذي ازعمه احيانا.. والتي تتمثلها هي دون ادعاء؟
أيا كان الأمر فأسمح لنفسي باستلهام ذلك في النظر إلي عالم العاشقين للهبات الربانية والتي جعلت منهم بشرا غير فانين بثمرة حبهم العظيم.
عمار الشريعي
أحد أئمة المحبين.. حيث أعطي عمره كله لموهبته الربانية التي جعلت منه علامة باقية لاتزول.
تعرفت اليه حين التقينا حول مسلسل النديم عام 1981 ولكن شغفي به سبق ذلك اللقاء، حين شاهدت ما قدمه في مسلسل «الايام» عن رواية الدكتور طه حسين.. اقول شاهدت لا سمعت فحسب.. شاهدت الظلمة المضيئة.. حيث بصيرة طه حسين الكفيف وموسيقي عمار الكفيف.. كلاهما ادخلنا إلي هذا العالم الذي لم نعاينه او نعانيه.. وأذهلنا أن نري في هذا الظلام الدائم.. دُررا تومض بالاحاسيس والمعاني في سيرة طه حسين الذاتية.. ومن هنا بدأ عندي ربط مستمر بين عبقرية طه حسين وعبقرية عمار.. حيث البصيرة تقهر غياب البصر ليتفرد كل من الرجلين وسط ملايين البشر!
استمرت متابعتي لمشروع عمار الشريعي في حبه العظيم مع الموسيقي.. لتتأكد العلاقة بين الرجلين، حتي فيما تميز به طه حسين في غير ما ابدعه ادبا وفكرا، أعني ما قدمه إلي جانب ذلك من مناصرة الحياة والتنوير في مجال التعليم والثقافة وسط أهله وبلده او ما نعنيه بالانتماء الحقيقي اليهم وإلي ما يعتقده في نفس الوقت.. وثقته في قدرته علي العطاء.. وهو ايضا ما نراه في سيرة عمار الشريعي الخصبة منذ بدأ يفرض مشروعه علي الساحة حتي فارقنا بالجسد وهو مهموم بالمنعطف الخطير الذي تعيشه أمته، وايضا مهموم بمتابعة واستكمال ما انجزه لعشقه الكبير مع الموسيقي مستغرقا بدرجة غير مألوفة صحته وحياته!
لم يكن مشروع عمار مع الموسيقي يستند إلي حرفية او مهارة وشطارة كغيره ولكنه كان ذاته! وانا اتحدث عن اعماله التي تمثله وليس ما قدمه من اعمال تمثل مقتضيات السوق- التي تحدثنا عنها فيما سلف والتي كثيرا ما اصابت قلوب المحبين العظام كعمار بجراح!
في «الأيام» نحن امام مدخله لعالمه الحقيقي والذي امتد خصباً متنوعا في اعمال مميزة تحس انها ذاته وتمثله ان السيرة الذاتية كما رواها طه حسين في روايته الايام تتحول مع موسيقي عمار إلي نص موسيقي مواز لعالم الايام بكل اسراره وسحره وقسوته.. وهو في السيرة المكتوبة فعلاً عالم قاس يكاد يرفض صاحب السيرة في باكورة حياته.. رفضا لكينونته كصبي ضرير اقرب إلي الفقر منه إلي الغني.. لتبدأ معركته ضد ظلام البصر بتماس.. مع معركته ضد ظلام الجهالة والتخلف والجمود!.. وهنا يأتي انجاز عمار في هذا العمل في انه توحد مع شخصية طه حسين مثلما توحدت موسيقاه مع سحر هذا العمل الباقي.. إذ انه نفس الصبي ونفس الفتي العنيد الصلب.. ثم هو نفس الرجل المحارب المحب لما وهبه الوهاب من اسلحة في مواجهة عالم ناقص معاكس.
حين اقتربت اكثر من عالم عمار الشريعي بالتعاون في تقديم مسلسل «النديم» تعمق احساسي تجاه عالمه الابداعي.. حيث جعل من السجن والسجان في «النديم» حين غاب عن العالم الخارجي في محبسه الدائم التعدد هروبا من مطاردة السلطة جعل ذلك مرادفا لفقدان البصر والعداء من قوي غاشمة خارجة.
وكما تحولت المعاناة في الايام إلي طاقة بناءة قادرة تحولت في «النديم» إلي طاقة من الصمود والايمان بقدرته وقدرة الشعب المصري علي الامل والتصدي لحماية النديم.. وايضا نضج وعيه وقدراته ومشاعره الادبية التي تتضح فيما كتبه في السنوات التسع من المطاردة وفي رسائله إلي اصدقائه خلالها.
من تابع اغنيات عمار في النديم يلاحظ انه لم يركز علي عنصر التشويق المتوفر في دراما الموضوع والمطاردة.. بل ركز علي شخصية النديم ومعاناته.. ثم تجليات الارادة في رحلته الصعبة تلك وهو لا يصيغ ذلك من رصيده الوجداني الشبيه برصيد طه حسين وحسب. بل وبوعي ودقة إلمام بالموضوع.. إذ كان يصر علي قراءة النص الدرامي اولا وبامعان.. وهو ما تأكد لي من مناقشته معي ومع المخرجة الكبيرة علوية زكي وكذلك مع الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الابنودي، وهو أمر لم أصادفه ابدا مع موسيقيين آخرين، ثم تأكد ذلك اكثر حين قام بصياغة اغنيات وموسيقي مسرحية رابعة العدوية، في نفس العام تقريبا مع الشاعر الدرامي الكبير سيد حجاب وفي نقاشه معه ومع المخرج المسرحي المتميز شاكر عبداللطيف، وهو في ذلك وما تلا ذلك لا يكشف فقط عن تأكيد موهبته الكبيرة وعشقه الربانيين بل ايضا من ثقافة واسعة متنوعة بل وعن انجازات علمية واضافات بالتعاون مع مؤسسات دولية موسيقية تجلت بالذات في مسلسل «أم كلثوم» والاجزاء الثلاثة لمسلسل «السيرة الهلالية» والعديد من اعماله.
ونكمل فيما يتبع ما قدمه من انجازات علمية وما قدمه للموسيقيين المكفوفين في العالم.