نائل السودة
المحبوسون على ذمة المطبعة
ثلاثون ألفاً من الكتب فقط كانت بقارة أوروبا كلها قبل العام 1450م، معظمها أو كلها تقريباً إلا قليلاً كانت نسخاً من الإنجيل وشروحاً وتفسيرات لنصوصه، وفى غضون خمسين عاماً صارت ما يزيد على تسعة ملايين كتاب فى مختلف موضوعات الحياة.
صار ممكناً لغير النخبة أن تصل إلى معلومات مكتوبة فى مجالات السياسة والأدب والشعر والعلم والعقيدة والفكر تبصرها وتقرأها وتفكر بنفسها بعدما كانت تسمعها من آخرين أو لا تسمعها.
كان ذلك بفضل حداد ألمانى يسمى جوتنبرج قدم المطبعة لأوروبا، استمر جوتنبرج يعمل عامين حتى استطاع تركيب الحروف المطبعية لطبع أول نسخة من الإنجيل، قبله كان الرهبان لا يستطيعون نسخ أكثر من نص واحد فى العام إلا فى حالات قليلة.
لنعقد مقارنة بين الرقمين السابقين لندرك كم زاد عدد القراء وكم المعلومات التى انتقلت إليهم وأثرت فى حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، النهضة بدأت هنا، أمكن مراجعة ومناقشة وتداول الأفكار من خلال شكل متداول للاتصال ومحمول ومتوفر، وزاد الشغف بالتعليم ومعرفة الأخبار عن الأماكن والبلاد والأفراد الآخرين وتغيرت البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى أوروبا.
هذه المطبعة لم تصل مصر إلا مع حملة نابليون 1798م وكانت معنية بصياغة البيانات التى تدعو للحملة وتؤثر فى المصريين، ثم أدخل محمد على المطبعة 1819م، بينما سبقتنا المطبعة على يد الأقليات الدينية إلى لبنان فى العام 1610م وإلى سوريا بعدها بمائة عام، بينما وصلت الحجاز 1882م، وكان اليهود هم أول من أدخلها فى الدولة العثمانية بالأستانة1492م وكانوا يطبعون التوراة وتفاسيرها بالعبرية واليونانية وغيرهما، بينما ظل العثمانيون لا يطبعون القرآن خوفاً عليه من التحريف والدنس، وعموماً فإنهم لم يستخدموا المطبعة إلا بعد عشرات السنين من ظهورها فى باريس ولندن، ثم إنهم لم يسمحوا بالطباعة بالحروف العربية إلا فى العام 1727م بناء على فتوى، وقبلها بعشر سنوات كان شيخ الإسلام قد أفتى بجواز استخدام المطبعة رغم أنها كانت قد استخدمت بالفعل فى دولة الخلافة!
تواريخ ذات معنى ودلالات كاشفة ومبصِّرة، فالمسلمون لم يتعجلوا وصول المطبعة وأداروا ظهورهم لما يساعدهم فى التعليم والاتصال والإعلام وتداول المعلومات والمعرفة.
عادة تاريخية لا تزال تعمل بفاعلية وتنتظر الفتوى لإنكار الوسائل الجديدة وإخماد الملكات الإنسانية، ظلوا يرفضون اختراع الكتابة ويفضلون السماع، يعتمدون على الآذان والترديد فى تلقى الأخبار والتعليم وتلقى المعرفة والمعلومات.
لا نية متوافرة فى استخدام حاسة أخرى غير الأذن.
جماعة تصر أن تتصرف كما لو كانوا مربوطين معاً فى حبل واقفين أو مستلقين حول شىء واحد، ليسمعوا، وتؤكد الجماعة للجماعة ألا يتخلف أحد لكى لا يصنع فتنة (المقصود يحفظ ولا يختلف) وبالضرورة ينصتون تماماً ولا يهمس أحدهم حتى يسمعوا، ثم إنهم سيفكرون معاً، فى حقيقة الحالة وبالدقة لن يفكروا، يتكاسل الجميع عن التفكير فى حضور الجميع، يتكفل أحدهم بإلقاء الفكرة المطلوبة وسيردون على الإجابات معاً، بل إن رد أحدهم يكفى فهذا رد الجميع، ملزم، بينما المطبعة تجعل كلاً يفكر وحده، ينفرد بالمكتوب الذى فى حوزته ويسائله ويصبح له فيه رأى وتأويل قد يتفق أو لا يتفق مع الجماعة (السمَّاعة) ولذا لم يسعوا للمطبعة مئات السنين، ولهذا تصير المطبوعات خطراً والمعرفة وشبكة الإنترنت خطراً ويجرى البحث عن سبل لمنع وإيقاف سيل المعلومات والآراء المتدفقة اختلافاً، فالذى يقرأ أو تصله المعلومة وهو فى خلوته صامت لا يصمت بعد القراءة، بل يتململ ويتحور وينطق لأول عابر فى سبيله، يختلف عما كان ويفكر كما لم يكن، ويبدل موقف ثبات بحركة، ينقل ويغير، وهنا تخاف السلطات القائمة.
هل غادرنا الأوضاع العثمانية واستخدمنا حواس غير السمع وعقولاً مغايرة أم احتلنا على ذلك؟
يجيب عن ذلك إسلام بحيرى وكثير من شباب الثورة المحبوسين فى السجون على ذمة القراءة والتفكير والاختلاف.