المساء
محى السمرى
ناس وناس- الصينيون .. "اشتغلوا .. ونالوا"
سافرت الي الصين نحو أربع مرات.. كانت المرة الأولي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي والمرة الأخيرة في الربع الأول من الألفية الثالثة.. وشتان الفرق بين المرة الأولي والأخيرة.. وطبعا شتان الفرق بين آخر زيارة والآن.
كان قلب بكين كما شاهدته أول مرة عبارة عن بعض الفنادق التي تعد علي أصابع اليد الواحدة.. وكان ضيوف الصين ينزلون في هذه الفنادق ولم يكن مسموحا للصيني ان يدخلها أو يجلس في مطاعمها ولا أدري ما سبب هذا المنع - ربما التقشف - وربما قلة المورد المالي للاشخاص.. عموما لم يكن هذا يهم.. وكانت البيوت في قلب المدينة تشبه إلي حد كبير البيوت الشعبية.. و في ذلك الوقت لم يكن مسموحا للأسرة ان تنجب أكثر من طفل واحد.. وإذا جاوزت الاسرة وانجبت أكثر تعرضت للحرمان من الدعم المقرر.. ولذلك كانت البيوت كلها صغيرة وتكاد تكفي الاشخاص الثلاثة.. وقيل أيامها انه في سنة 2017 سيكون الاطفال قد كبروا ولن يكون لهم أعمام او أخوال أو عمات أو خالات وبالتالي سيكون الولاء كله للدولة.. وكانت الدولة قد قررت تحديد النسل بهذه الطريقة لأن عدد السكان كان مذهلا إذ وصل الي نحو مليار شخص.. وكان السؤال الصعب كيف تطعم الصين هذا الكم الهائل من السكان.. كان ذلك منذ نحو ثلاثين عاما أو أقل قليلا.. صحيح كانت الشوارع واسعة والكل لايستخدم الا الدراجات.. وفي الصباح الباكر وفي المساء تغطي الارض الاف مؤلفة من الدراجات تسير في صفوف واحدة وبصورة رائعة.
وبعدها تعددت سفرياتي اليها وفي كل مرة اجد فيها شيئا مبتكرا وجديدا حتي المنتجات في الصين.. صحيح انها كانت لاتزيد عن المنسوجات الحريرية والسجاد والفازات المتقنة الصنع والزخرفة حتي كأنها تبدو قطعا اثرية لم تكن الاجهزة الكهربائية قد انتشرت هناك.. بل وكان انتاج السيارات ضئيلاً.
وكان الكل يحلم بأن تتطور للصين.. وان تصبح بلدا صناعياً وتغزو العالم بانتاجها الوفير.. وتحقق لهم الحلم.. ولم يكن تحقيقه سهلا.. بل كان أشبه بالمعجزة.. فالمعروف ان الصين عانت كثيرا من الفقر والفساد.. أما الفقر فقد تمت معالجته من خلال رياح الانفتاح وبعد ان سارت في طريق التغيير وبالفعل خلال 15 عاما كان علي أرض الصين اكثر من عشرة الاف مشروع.. وقامت بتطوير منطقة وسط المدينة حيث نقلت كل سكان البيوت الشعبية إلي منطقة جديدة في اطراف بكين.. واقامت فيها بيوتاً علي مستوي افضل وادخلت الخدمات ووسائل الترفيه اليها بحيث اصبحت مناطق جاذبة للسكان محببة لهم.
واذكر انني أثناء احدي زياراتي لبكين ان سرت في طريق بدالي جديدا وهو يصل بين مطار بكين ووسط المدينة وذكر لي السفير المصري ان هذا الطريق تم شقه وانجازه في مدة ثلاثة اشهر حيث عمل فيه نحو الفين من العمال.. وكان العمل يجري ليلا ونهارا ولهذا أمكن أنهاء هذا الطريق الذي يصل طوله الي أكثر من ثلاثين كيلو متراً في ثلاثة أشهر فقط.
ولم تعتمد الصين علي الفهلوة في اقامة مشاريعها بل اعتمدت علي التعليم وكفاءة المعلمين والمدرسين والاساتذة سواء في التعليم المتوسط او الجامعي وشجعت الابحاث العلمية التي تجريها الجامعات والمدارس الفنية واقامت شركات يقوم انتاجها علي الابحاث والدراسات ولهذا تنوع الانتاج واصبح شاملا جامعا لكل ما يتخيله العقل.. وغزا الانتاج الصيني كل بلاد العالم بلا استثناء.
فيما علمت ان الحكومة الصينية وضعت أولويات للمشروعات فكانت البداية التركيز علي مشروعات البناء والبنية الاساسية بما فيها شبكة الطرق والمواصلات والاتصالات والمشروعات التالية هي المنتجات الصناعية والزراعية والحيوانية والتي يمكن من خلالها ان تصل الي اسواق العالم.. بالاضافة الي ذلك وضعت الحكومة آلية لتطوير منتجات متقدمة تكنولوجيا ذات ربحية اعلي واقدر علي المنافسة للمنتجات المثيلة من انتاج الدول الاخري.
بخلاف مئات المشروعات الاخري والتي تعتمد بصورة اساسية علي المواد الخام المحلية أو المواد الخام المستوردة والتي تنتج بغرض التصدير بشرط ان تتوافق مع البنية الاساسية المحلية وفي المقابل هناك حظر صارم علي انواع من الصناعات والمنتجات التي لاتقرها السلطات.
ومن الامور المهمة التي فعلتها الصين.. والتي نحن بحاجة لتطبيقها عندنا وهي وضع ضمانات لحماية الاستثمارات الخارجية ولذلك وقعت الصين اتفاقيات مع الدول لحماية الاستثمار الصيني والاجنبي ولتجنب التهرب الضريبي.
اما الفساد فقد كانت الحكومة لاتنظر طويلا لمحاسبة الفاسدين.. ومن يضبط في واقعة فساد فإن الحساب العسير والسريع يكون في انتظاره ولهذا قلت نسب الفساد بدرجة كبيرة.
والواقع ان كل هذه الاجراءات التي تم اتباعها في الربع الاخير من القرن الماضي.. جعلت الصين تتقدم بسرعة الصاروخ وجذبت المشروعات الملايين من الايدي العاملة لدرجة ان حدث نزوح من الريف الي المدن وخاصة بكين وشنغهاي وجينزو للعمل في هذه المشروعات وان كان هناك مازال بعض الايدي العاملة الذين لايجدون عملا.
وهكذا صبر الصينيون علي الفقر والحرمان.. ولكنهم نالوا كل ما كانوا يحلمون به.. الدراجات تحولت الي سيارات وامتلأ قلب بكين بناطحات السحاب في اطار خطة لتوفير المساكن الجميلة وغير ذلك من الوان الرقي.
كنا زمان عندما نصل الي بكين نذهب الي محل تجاري يعرف باسم "الاصدقاء" والبيع فيه يتم بالعملات الحرة وليس "باليوان - عملة الصين" وفيه اجود انواع المنتجات الصينية.. وايضا السلع المستوردة.
حقيقة الصين عملاق اصغر غزا العالم بانتاجه المتميز والمتنوع وما فعلوه ونفذوه.. يصلح لكي يتم تدريسه لدول العالم النامي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف